سلوى بعلبكي
ليس خافياً أن الجمود الاقتصادي المتحكّم بالبلاد القى بمفاعيله السلبية على القطاع العقاري الذي يعاني بدوره جموداً لافتاً في حركته. الاّ انه ورغم تراجع حركة البيع لا تزال الأسعار تحافظ على ثباتها مع اتجاه بعض المطوّرين الى مسايرة الزبائن بخفوضات تصل الى نحو 25 %.
كثر الحديث في الاسابيع الأخيرة عن عودة اللبنانيين من الخليج مع اشتداد الأزمة السياسية مع عدد من الدول الخليجية، بما أشاع جواً تشاؤمياً على كل القطاعات وخصوصاً العقاري منها الذي يعتمد في نموه على المغتربين اللبنانيين والخليجيين. ولكن هذا الجو سرعان ما تبدّد بعد طمأنة عدد من السفراء الخليجيين أن لا قرار بترحيل اللبنانيين. وهذا الأمر برأي الخبير العقاري رجا مكارم شكّل عامل اطمئنان للسوق العقارية، مع تأكيده أن معالجة ملف النفايات سيؤثر بدوره ايجاباً على القطاع، “إذا تمّت معالجة هذا الملف فإن الحركة العقارية ستنشط، فكيف الحال بالنسبة الى بقية الملفات العالقة مثل الملف الرئاسي وقانون الانتخابات”.
وفي حين تخوّف عدد كبير من المعنيين من تأثير المشكلة اللبنانية – الخليجية على القطاع، خصوصاً في ظل الحديث عن حركة بيع للعقارات الخليجية في لبنان، لم يعر مكارم هذا الأمر اهمية كبرى، وذلك انطلاقاً من أن لبنان يعيش في جو الاعتكاف الخليجي منذ 10 أعوم تقريباً وتحديداً منذ 2006 لأسباب عدة منها انتقال السلطة في لبنان الى جهات لا يحبذون التعامل معها، ما أدى الى تقلص الاستثمارات الخليجية حتى بلغت نحو صفر في المئة.
وفيما يبدو أن تراجع الطلب على الشقق محدود ولكن ذلك لا يعني أن أسعار الشقق لا تزال على حالها، أشار مكارم الى أنه فيما كان المطوّر هو الذي يحدّد السعر في السابق، أصبح الشاري هو الذي يحدّد الأسعار على نحو يرغم المطوّر على خفض اسعاره ما بين 20 و25%، خصوصاً اذا كان مضطراً الى البيع. وإذا كان تراجع الطلب على الشقق بات محدوداً نوعاً ما، إلاّ أن مكارم لم يخف التراجع الملحوظ على العقارات التجارية وخصوصاً المحال التجارية والمكاتب بما أدى الى انخفاض ايجارتها بنحو 30 و40%. وهذا الأمر بديهي برأيه، نظراً الى انعكاس الاوضاع الاقتصادية على الحركة التجارية عموماً.
ومع تردي الأوضاع الاقتصادية وتدني ميزانيات اللبنانيين، لجأ المطوّرون العقاريون الى بناء شقق بمساحات أقل. فبعدما كان معدل مساحات الشقق الصغيرة يراوح بين 250 و120 متراً مربعاً، وصلت اليوم الى 70 متراً مربعاً لتنسجم مع ميزانيات اللبنانيين المحدودة جداً وخصوصاً المقيمين منهم. هذه المساحات وفق ما قال مكارم، أصبحت متداولة في كل مناطق العاصمة بيروت حتى في منطقة الوسط التجاري التي تعتبر منطقة لذوي الدخل المرتفع.
تراجع التداول العقاري 60%
الحديث مع رئيس نقابة مقاولي الاشغال العامة مارون الحلو لم يختلف كثيراً عن ما أورده مكارم. إذ أكد أن الوضع العقاري جامد منذ أعوام، ولكن هذا الأمر لا يعني أن البيوعات لا تتم. إلاّ أنه لم يوافق مكارم على أن المطوّرين يجرون حسومات تصل الى 25%، لافتاً الى أنها لا تتجاوز الـ 15% في حال كان المطوّر العقاري مضطراً الى السيولة.
وإذ عزا جمود الوضع العقاري في بيروت الى أسباب عدة منها أن ارتفاع الأسعار بلغ حداً لا يتفق مع قدرة اللبنانيين المادية في ظل الاوضاع الاقتصادية المتردية، دعّم رأيه بالإحصاءات التي تشير الى تراجع في رخص البناء العقاري بنسبة 10% في المناطق، فيما تراجعت في بيروت 35%. ولاحظ الحلو اتجاه المطوّرين الى بناء شقق صغيرة لا تتجاوز مساحتها الـ 200 متر مربّع، لأن امكانات اللبنانيين المادية أصبحت محدودة، وهذا ما سيأخذه المطورّون مستقبلاً في الاعتبار خصوصاً وأنه لا أفق للخروج من الازمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان. وأشار الى أن الفورة العقارية الكبيرة سجلت بين عامي 2005 و2011، ثم بدأ التراجع منذ ذلك الحين في القطاع بنسبة 10% سنوياً حتى وصل الانخفاض في التداول العقاري بين 2015 و2016 الى 50 و60%.
ولا يتخوّف الحلو من عودة اللبنانيين من الخليج الذين يبلغ عددهم نحو 400 الف نصفهم تقريباً في السعودية. ويعزو السبب في حال عودتهم الى تراجع الحركة الاقتصادية في تلك البلاد نتيجة انخفاض الموازنة السعودية وأسعار النفط. ويتفق مع مكارم في مسألة بيع الخليجيين لعقاراتهم على انها ليست بالحدث الجديد، “هذه الظاهرة بدأت عام 2006 نظراً الى تغيّر المشهد السياسي الذي اعتبروه مناهضاً لهم، وتالياً لم يعد لديهم النفوذ الذي كان يحظون به أيام الرئيس رفيق الحريري”.
تراجع البناء في العاصمة لمصلحة المناطق
يشكّل القطاع العقاري وقطاع البناء نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد تباطآ على نحو لافت في ظل التباطؤ الاقتصادي العام. ولكن التباطؤ السائد في سوق العقارات لا يعني أن النشاط معدوم، وفق ما قال كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث في بنك عوده الدكتور مروان بركات، معتبراً أنه “يأتي في سياق المناخ السياسي العام السائد محلياً وإقليمياً وتأثيره على مدى قابلية المشترين على إنجاز عمليات شراء”.
وقد شهد القطاع العقاري في الآونة الأخيرة تراجعاً في النشاط في ضوء تلبّد المناخ السياسي المحلي العام وتداعيات الأزمة الإقليمية لاسيما السورية مما أثّر على ثقة المستثمرين والمشترين، وانعكس تراجعاً على الطلب من المستثمرين العرب والمغتربين اللبنانيين، في حين أبقى المشترون اللبنانيون المقيمون السوق العقارية متماسكة نسبياً.
في ظل هذا المناخ، سجل انخفاض في معاملات البيع العقارية بنسبة 11% خلال عام 2015، أما على مستوى العرض فقد تراجعت مساحات رخص البناء الممنوحة بنسبة 9% في موازاة الانخفاض في تسليمات الاسمنت بنسبة 9%. وبما أن المقيمين يشكّلون المحرك الرئيسي للسوق العقارية في الوقت الراهن، أشار بركات الى أن المبيعات العقارية للمساحات الصغيرة والمتوسطة الحجم والعقارات خارج بيروت هي التي تحدّد حالياً اتجاهات العرض عموماً. فالمشاريع العقارية الجديدة في بيروت أقل مما كانت عليه قبل بضعة أعوام وذلك لمصلحة كل من جبل لبنان والجنوب. عليه، فقد تراجعت حصة بيروت من إجمالي رخص البناء الممنوحة إلى 5% فقط عام 2015 في مقابل 18% في 2007، كما تراجعت حصة بيروت من إجمالي قيمة المبيعات العقارية من 40 إلى 25% خلال تلك الفترة.
ولكن الانكماش في أحجام السوق لم يواكبه انخفاض مماثل في الأسعار، إذ قال بركات: “ما يدعم قطاع العقارات في هذه الظروف الصعبة هو شبه غياب فقاعة عقارية في قطاع العقارات، ما يحدّ من انخفاضات الأسعار، ولم تنخفض أسعار العقارات بشكل لافت في الإجمال خلال الأعوام القليلة الماضية على الرغم من الظروف غير المؤاتية نسبياً لحركة الاستثمار العقارية منذ عام 2011”. أضاف: “العوامل التي تدعم بنيويّاً الأسعار في لبنان هي غياب المضاربة في سوق يخيّم عليها طابع الاستخدام الشخصي، والرافعة الاقتراضية المتدنية لدى المقاولين وندرة الأراضي التي تدعم باستمرار أسعار الشقق”.
توازياً، تشهد القروض السكنية مستويات متدنية في احتمالات التعثّر، فنسبة القروض السكنية المتعثرة تبلغ حالياً 0.5% من إجمالي القروض، ما يشكل مستوى منخفضاً بشكل ملحوظ مقارنة بالمعايير المماثلة. ويعزو بركات السبب “إلى الارتباط المباشر لهذا النوع من القروض بعامل الاستقرار الاجتماعي والأسري والتي تسعى الأسر اللبنانية عادة الى المحافظة عليه”.
ترتبط آفاق السوق العقارية في لبنان على نحو رئيسي بتطور الأوضاع الداخلية والإقليمية. فعلى الرغم من العوامل البنيويّة الداعمة للأسعار العقارية في لبنان، إلاّ أن بركات لا يتوقع تحقيق وتيرة تصاعدية ملحوظة في الأسعار “نظراً الى وجود مخزون لافت من العقارات غير المباعة والتي ترخي بثقلها على سوق لم تعد في وضعية مريحة كما كانت الحال في منتصف العقد الماضي”.
أمام هذا الواقع، يبدو أن مرحلة ثبات أسعار العقارات نوعاً ما قد تمتد إلى حقبة أطول نسبياً في سوق تعد اليوم ملائمة للمشترين (buyer’s market) وفي غياب العوامل القادرة على كسر حلقة الجمود السائدة في السوق العقارية عموماً.