من دون أن يهتزّ لهم رمش واحد، يمكن لقياديي “كتائب عبدالله عزّام” أن يتحدّثوا مطوّلاً عن تجربتهم في “الجهاد” ويرووا رحلات حياتهم التي انتهى بها المطاف ليكونوا نزلاء في سجن الريحانيّة أو رومية.
جمال دفتردار واحدٌ من هؤلاء، وإن اختلف عن نعيم عبّاس وماجد الماجد وبلال كايد وسراج الدّين زريقات… بأنّ دوره التنفيذي كان ضحلاً داخل الأراضي اللبنانيّة برغم أنّه واكب في تنقّلاته جميع الأسماء الكبيرة في عالم الإرهاب، لا سيّما أثناء لجوئه إلى مخيّم عين الحلوة لكونه مطلوباً بين عامي 2008 و2012.
كما أن دور “أبو هاشم” في التفجيرات التي حصلت في لبنان، يكاد يكون معدوماً، إذ أنّ دفتردار انتقل في العام 2012 إلى سوريا ليعود إلى لبنان في حزيران 2013 وهو في غيبوبة قبل أن يصبح مشلولاً ويعاني من إصابات خطيرة إثر إصابته في القصير، وفق ما يقول، وإن كان المحققون يشيرون إلى ضلوعه في إعطاء دورات دينيّة لـ “الجهاديين”.
وتكمن أهميّة دفتردار في اطلاعه وتعمّقه في الدين الإسلامي وتنقّله بين أكثر من جماعة دينيّة، ليكون واحداً من أهمّ المنظّرين للفكر السلفيّ. يمتلك ابن الـ37 عاماً قدرة على الإقناع. لا يتوقّف الأمر عند سعة إطّلاعه وأسلوبه، فالشاب المولود في برج البراجنة بدأ يتردّد على المساجد والمعاهد الدينيّة منذ نعومة أظافره.
في العام 1995، أي عندما كان يبلغ 16 عاماً، بدأ دفتردار يتتلمذ على يد أحد مشايخ العاصمة، لينتقل بعدها إلى عكّار حيث درس الشريعة وتعمّق في نهج السّلف الصالح في “معهد الجاموس” قبل أن يتابع دروسه الدينيّة في إحدى الجامعات الإسلاميّة.
أعوامٌ وقليلة وكان دفتردار قد اتّخذ قراراه بالسّفر إلى السعوديّة ليعود منها واحداً من المؤمنين بالفكر الوهابيّ في العام 2005.
من السعوديّة إلى “أرض الجهاد”
كان دخول الأميركيين إلى أفغانستان والعراق مفصلاً مهماً في حياة “أبو هاشم”. حينها، بدأ فكر تنظيم “القاعدة” يتسلّل إلى عقله. وسرعان ما أضحى “حلم الجهاد” حقيقةً، فحارب الأميركيين في العراق وأفغانستان تحت لواء “القاعدة”. يقول “لي الفخر بأنني أطلقت النار على الأميركيين وقتلت بعضهم”، مشيراً في الوقت عينه إلى أنّ “الأميركيين كانوا يضربوننا ولا يضربون المدنيين، عكس ما هو الوضع عليه في سوريا”. يتابع “نفتخر أنّنا جهاديون”.
وبعد أن أنهى القتال إلى جانب “القاعدة” في العام 2007، نوى العودة إلى منزل والديه في برج البراجنة عبر سوريا وكأن شيئاً لم يكن، ولكن قراءة اسمه بين أسماء 52 مطلوبا للعدالة في جريدة “السفير”، غيّر في مخططاته. ولذلك، تواصل مع أحد المهرّبين الذي نقله إلى جرمانا ونصحه بالتحدّث إلى شخص اسمه “خليل” (تبّين لاحقاً أنّه نعيم عباس) عبر إحدى الصفحات على الانترنت.
وهكذا كان، في نهاية الـ2007 دخل دفتردار إلى لبنان بهويّة مزوّرة زوّده بها نعيم عباس، ولجأ إلى منزل شقيقته في محلة بعجور في الضاحية ليكتشف أنّ صديق طفولته طلّق شقيقته وتزوّج بأخرى، وليعلم أيضاً أن والده توفّي.
تدهورت حال الشاب النفسيّة، فطلبت والدته من صهره السابق رعايته، ليبقى في منزله لمدّة أسبوعين ويحدّثه خلالها عن خوفه من أن يتمّ إلقاء القبض عليه أو أن يعمد “حزب الله” إلى مضايقة أهله.
وبعد انتهاء الأسبوعين، كان دفتردار قد أمّن لنفسه دخولاً آمناً إلى عين الحلوة، بعد أن تواصل مع “خليل” الذي طلب منه الوصول إلى “مسجد خالد بن الوليد” والتحدّث معه عبر “سنترال” قريب ليأتي ويقلّه إلى مخيّم عين الحلوة. وهناك بقي الشاب لسنوات في غرفة على سطح منزل والدي نعيم نعيم الملقّب بـ “أبو مصعب” (قيادي في كتائب عبدالله عزّام(.
في هذه الغرفة، تعرّف الشاب على ماجد الماجد وتوفيق طه ونعيم عبّاس. وعلم بأمر البدء بإعداد خلايا تتّصل بـ “القاعدة” تحت مسمّى “كتائب عبدالله عزّام”. وفيها تلقّى دورة تدريبيّة على المتفجّرات من دون أن يقصد ذلك! إذ يؤكّد دفتردار أنّها كانت المرة الأولى والأخيرة التي يرى خلالها طه الملقّب بـ “أبو محمّد” يعطي دورة على المتفجّرات في الغرفة التي كان يسكن فيها وحيث كان نعيم عباس يستقبل السعوديين أبو العبّاس وأبو عبدالله لتلقي الدورة، ما منعه من عدم متابعتها، وإن كان لم يركّز على ما كان يقوله “أبو محمّد”.
وفي هذه الغرفة، ودّع أحد الأشخاص الذين قاتلوا معه في العراق ويدعى “أبو سلمان” أو “أبو عبدالله”. وقبل رحيل الأخير، أخبره بضرورة التّواصل عبر “فايسبوك” مع حساب وهمي يعود إلى شخص اسمه نجم (تبيّن لاحقاً أنّه السعوديّ صالح القرعاوي الذي أسّس كتائب عبدالله عزّام في بلاد الشّام وكان مسؤول علاقاتها الخارجيّة).
وعبر هذا الحساب الذي يحمل اسم “شادي” تواصل ماجد الماجد مع القرعاوي ليكون دفتردار مطلعاً على المراسلات السريّة التي كانت تجري بين الرّجلين، وفي إحداها خلافٌ حصل بينهما بعدما طلب القرعاوي من الماجد استهداف قوّات “اليونيفيل” والجيش اللبنانيّ. فرفض الماجد الأمر وأكّد أنّ “شغلنا مع اليهود”، وذلك بعد أن تواصل بدوره مع القائد الميداني لـ “القاعدة” في أفغانستان عطيّة الليبي والمسؤول المالي لأسامة بن لادن مصطفى أبو اليزيد الملقّب بـ “الشيخ سعيد”.
كما تواصل الماجد، باعتباره عضواً في مجلس شورى الدولة الإسلاميّة ومقرّها وزيرستان وكان توفيق طه مساعده فيه، مع القيادة في وزيرستان ونصحته بتحضير عمل أمني في الجنوب ضدّ القوّات الإسرائيليّة.
“لا أكفّر الجيش ولا علاقة لي بالتفجيرات”
كان دفتردار بالنسبة للماجد، أقرب إلى “مستشار إعلامي”، برغم أنّ الأخير كان مقلاً في اختلاطه مع النّاس. كلّما أراد الشاب السعوديّ أن يطلّ لمخاطبة جمهور “القاعدة” في لبنان كان يعود إلى “أبو هاشم” لأنّ الأخير كان “ابن البلد” ومطلعاً على التركيبة اللبنانيّة وزواريب السياسة فيه. برغم أنّ دفتردار ينفي انتماءه إلى “الكتائب” أو أن يكون مستشار الماجد أو حتى أنّه شارك في ضرب صواريخ من الجنوب على فلسطين المحتلّة، مشيراً إلى أنّ الماجد كان فقط يستفيد منه ببعض المعلومات.
وينكر دفتردار ما جاء في إفادته الأوليّة أن يكون واحداً من مؤيدي نهج استهداف الجيش و “حزب الله” خصوصاً والطائفة الشيعيّة عموماً وقوات “اليونفيل” لحثّهم على الرّحيل أو مشاركته في التفجيرات، وإنّما يلفت الانتباه إلى أنّ “هذا الكلام كذب وبهتان، فأنا شفّاف وهم (محققو وزارة الدّفاع) أضافوا البهارات على كلامي. فأنا ولدت وعشت في الضاحية الجنوبيّة”، مشدداً على “أنني لا أخاف لا من الجيش ولا من حزب الله، ولو كنت خائفاً ما بنزل على الضاحية”.
وبرغم نفيه انتماءه إلى “الكتائب”، فإنّ لدفتردار معرفة كاملة بقيادييها ومهماتهم. فالقيادي في “الكتائب” يوسف شبايطة كان مقاتلاً شرساً وصديقاً قديماً لتوفيق طه، ونعيم نعيم كانت مهمّته إيواء المطلوبين، فيما بلال كايد كان مسؤول “الكتائب” في الشؤون المعلوماتيّة، لتخصّصه بذلك بالإضافة إلى إلمامه باللغة الإنكليزيّة ودرّب الماجد على استخدام الكمبيوتر وبرامجه.
وبعد مكوثه لأعوام في عين الحلوة، اقترح الماجد عليه أن ينتقل إلى سوريا حيث سيتنقّل بحريّة أكبر “إلى أن يفرّج الله أمرك”.
وهكذا حصل في نهاية العام 2012 حينما انتقل “أبو هاشم” إلى القصير من دون أن يتواصل مع والدته التي كانت تزوره مع صديقه وصهره السابق محمّد حسن العجوز في المخيّم بمعاونة وسام نعيم الملقّب بـ “أحمد”. وبعد أكثر من اتّصال عبر رقم لبناني، علمت والدته أنّه في القصير ويقاتل إلى جانب “كتائب الفاروق” وتزوّج ابنة قائد “الكتائب”.
.. وانتهى المطاف على كرسيّ مدولب
وبعد فترة وجيزة، انقطعت أخبار دفتردار حتى علمت والدته أنّه أصيب بقذيفة “هاون” ليتمّ نقله من سوريا إلى مستشفى في كامد اللوز عبر الصليب الأحمر وهو في حالة غيبوبة. وسريعاً، اتصلت الوالدة بالعجوز وانتقلا إلى البقاع، قبل أن تحذّره أن يناديه في المستشفى باسم محمّد أو حسين حتى لا ينكشف أمره. وهناك تعرّفت الوالدة على زوجة ابنها السوريّة التي بقيت معه إلى حين إلقاء القبض عليه في كانون الثاني 2014 في كامد اللوز، ولينتهي به المطاف نزيلاً في سجن الريحانيّة على كرسيّ مدولب.
هذه هي رحلة دفتردار التي رواها، أمس، خلال استجوابه من قبل رئيس المحكمة العسكريّة العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم في حضور وكيلة الدّفاع عنه المحامية عليا شلحة، حتى تعب الموقوف ليقول لابراهيم: “ما شاء الله أسئلتك ثقيلة”.
كما استجوب رئيس “العسكريّة” أيضاً محمّد حسن العجوز في حضور وكيلة الدّفاع عنه المحامية هلا حمزة. وأشار الشاب الذي يعمل في مجال الانترنت في الضاحية الجنوبيّة، إلى أنّه كان صديق دفتردار منذ الطّفولة وتزوّج شقيقته ثمّ طلّقها برغم أنّه أبقى على علاقته المميزة بوالدة دفتردار التي كانت تعتبره مثل ابنها وكانت تتصل به مراراً لمتابعة أمور ابنها.
ولذلك، قام الموقوف بزيارة صديقه في عين الحلوة لأكثر من 6 مرات، حيث قابل هناك العديد من قياديي “الكتائب” والتقى توفيق طه الذي طلب منه أن يفتتح شبكة انترنت ويؤمّن له أدوات للكمبيوتر، نافياً أن يكون قد أعطى “أبو محمّد” معلومات عن كوادر في “حزب الله” وأماكن سكنهم.
وأكّد أنّ دفتردار نصحه بأن لا يكشف اسمه الحقيقي في المخيم بل يكتفي بلقب “أبو تراب”، لافتاً الانتباه إلى أنّ دفتردار لم يعمل على تجنيده بل نصحه فقط بالمواظبة على الصّلاة.