حذّر صندوق النقد الدولي من تداعيات الجمود السياسي على الاقتصاد في لبنان، وقال ان تحسن أوضاع الاقتصاد الكلي يتوقف بصورة حاسمة على تحقيق الأمن واكتساب الثقة. ولفت الى ان لبنان لا يزال تحت التأثير السلبي لسلسلة الصدمات الكبيرة التي أصابت المنطقة، وكانت أهمها في السنوات القليلة الماضية أزمة النازحين من سوريا.
وكانت بعثة من الصندوق برئاسة المديرة المساعدة في إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، أناليزا فيديلينو، زارت لبنان في شباط الماضي وهي تستعد لإجراء ما يُعرف بـ»مشاورات المادة الرابعة«، حيث من المقرر إيفاد بعثة اخرى في ايار المقبل. وسوف تقوم البعثة بإعداد تقرير الخبراء لعرضه على المجلس التنفيذي خلال الصيف.
فيديلينو في تدوينة لها تناولت فيها تجربتها في تناول أهم قضاياه الاقتصادية الكلية وعملها في الصندوق، حذرت من انه ما دامت الأزمة في سوريا باقية من دون حل، فإن احتمالات التعافي المتواصل في لبنان ستظل محدودة، كما ستظل ثقة المستهلكين والمستثمرين ضعيفة. وبالنظر إلى خارج المنطقة، يتبيّن أن تصاعد أسعار الفائدة في الولايات المتحدة سيؤثر سلباً أيضاً على تكلفة التمويل وخدمة الدين في لبنان، نظراً الى ربط سعر صرف الليرة بالدولار.
ولاحظت فيديلينو تسجيل النمو تراجعاً حاداً من متوسط 8 في المئة في الفترة بين عامي 2008- 2010 إلى حوالى 1 في المئة سنة 2015، فيما تعرضت قطاعات الاقتصاد التقليدية (العقارات والبناء والسياحة) لأضرار كبيرة، لا سيما عام 2015. كذلك ترسخت أجواء الجمود السياسي، حيث لا يزال لبنان من دون رئيس منذ قرابة عامين.
على الجانب الإيجابي، لفتت فيديلينو إلى أن أسعار النفط المنخفضة أعطت دفعة تستحق كل الترحيب لمستويات الدخل في لبنان، ولكنها لا تكفي لمواجهة الأوضاع الإقليمية والمحلية المناوئة.
وشددت على أن استقرار أوضاع الاقتصاد الكلي في لبنان يتوقف بصورة حاسمة على تحقيق الأمن واكتساب الثقة، بينما يرجع للسلطات اللبنانية الفضل في حفظ الأمن في ظل بيئة إقليمية تكتنفها التحديات. كما سيكون ترسيخ مشاعر الثقة عاملا حيويا أيضا في مواصلة اجتذاب التدفقات الرأسمالية الكبيرة (الودائع والتحويلات والاستثمار المباشر) إلى الاقتصاد وتغطية احتياجات لبنان الكبيرة من التمويل.
وفي هذا الصدد، تبرز، بحسب فيديلينو، 3 مجالات من مجالات السياسة الاقتصادية:
1 ـ يتمثل المجال الأول في العمل على تهيئة المناخ الداعم لزيادة فرص العمل وتعزيز النمو. ففي كل عام تهاجر نسبة كبيرة من قوة لبنان العاملة ذات المهارات العالية إلى الخارج نتيجة لعدم كفاية فرص العمل. ونحن نسعى لتقديم أمثلة من البلدان التي قامت بتنفيذ الإصلاحات لكي يتمكن لبنان من الاستفادة على نحو أفضل من رأسماله البشري الكبير.
2 ـ المجال الثاني هو ضرورة تصحيح أوضاع المالية العامة لتخفيض مواطن الضعف الاقتصادي ووضع المديونية على مسار قابل للاستمرار فالدين العام يقترب من 140 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وفي غياب أي تدابير تصحيحية من المتوقع أن يزداد أكثر. والدين العام الكبير ينطوي أيضا على تكلفة باهظة حيث تستهلك مدفوعات الفائدة حاليا ثُلثي الإيرادات الضريبية الكلية، أو أكثر من 9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
ومن الممكن توجيه هذه الموارد فعليا إلى استخدامات منتِجة. ولا شك أن ضبط أوضاع المالية العامة ليس مما يقابل بالتأييد الشعبي ولا هو سهل التنفيذ، وخاصة في بيئة يسودها النمو المنخفض والارتفاع الكبير في حاجات الإنفاق، وأبرزها للخدمات العامة والبنية التحتية. ومن ثم فإننا نحرص على اتباع منهج بنّاء عن طريق اقتراح التدابير التي تساعد على التخفيف من حدة الآثار السلبية المحتملة على النمو نتيجة ضبط أوضاع المالية العامة.
على سبيل المثال، هناك مناخ سائد يتسم بانخفاض شديد في أسعار النفط، مما يتيح للبنان فرصة فريدة لزيادة الإيرادات بعد تراجعها بما يقارب 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي منذ عام 2011. كذلك تم تخفيض ضرائب الوقود أو إلغاؤها عندما كانت أسعار النفط شديدة الارتفاع في 2011-2012 وينبغي الآن زيادتها لمواكبة الأسعار العالمية الراهنة.
ولن يقتصر توليد وتحصيل المزيد من الإيرادات على المساعدة في خفض عجز الموازنة لكنه سيوفر أيضا حيزا ماليا لتنشيط برامج الإنفاق التي طالها الإهمال. ومن أمثلة ذلك الاستثمار العام الذي يبلغ حاليا مستويات متدنية لا تتجاوز 1.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
3 ـ في المجال الثالث، فمع الانخفاض البالغ في الاستثمار العام، إلى جانب أمور أخرى، أصبح لبنان في أمس الحاجة لتطوير شبكة البنية التحتية القاصرة، والتي تتعرض حاليا لزيادة الضغط عليها نتيجة تواجد أعداد كبيرة من النازحين.
ويمكن زيادة الاستثمار في البنية التحتية أيضا بزيادة إشراك القطاع الخاص فلا شك أن لبنان لديه قدر وفير من رأس المال المالي والبشري للقيام بهذه المهمة. وسوف تتطلب مشاركة القطاع الخاص، إجراء إصلاحات تنظيمية لتعزيز الإطار القانوني في لبنان، مثل تشجيع «شراكات القطاعين العام والخاص« بأسلوب سليم وشفاف (علما بأن هناك مشروع قانون إطاريا ينتظر إقرار البرلمان منذ بضع سنوات). وهذه ليست سوى مجرد أمثلة قليلة على المبادرات التي يمكن اتخاذها. ففي ظل بيئة النمو المنخفض حاليا، يمكن تحقيق فرق كبير بالقليل من التغييرات الملموسة على مستوى السياسة.