كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
عندما يتم اكتشاف مَن هي «داعش» سيتمّ كشف اللغز المسمّى «الربيع العربي»، أو الحروب الأهلية وغير الأهلية في الشرق الأوسط والعالم العربي، بدءاً بـ«القاعدة» وحروب أفغانستان والعراق… وصولاً إلى حروب سوريا. وعملياً، ستكون هذه الحروب قد انتهت، لأنّ مَن اخترع «داعش» لن يُنهي مهماتِها إلّا باستنفادها تماماً.في تقدير بعض المتابعين أنّ الخلوة التي عقدها الرئيس سعد الحريري، في اليرزة، مع قائد الجيش العماد جان قهوجي، شديدة التعبير في توقيتها وحساسية ظروفها، ليس فقط لأنها تأتي بعد تجميد الهبة السعودية للجيش، بل أيضاً بعد التهديد «الشامل» الذي وجَّهته «داعش» إلى الجيش.
وقد تضمَّن التسجيل المنسوب إلى «داعش – ولاية الرقَّة»، تحريضاً للضباط السنّة في الجيش، إضافة إلى تهديد الحريري مجدّداً، ورئيس مجلس النواب نبيه بري و»حزب الله» والمسيحيين.
وسبق للتنظيم أن وجَّه تهديداته نحو الأهداف إياها في تسجيلات سابقة، لكنّ التهديد الأخير يرتدي أهمية خاصة، لأنه جاء وسط ظروف معيّنة يمرّ بها لبنان:
1- عودة الحريري إلى لبنان، متجاوزاً المخاوف الأمنية. ومعلومٌ أنّ جانباً من هذه المخاوف يتعلق باحتمال قيام جماعة تكفيرية بتدبير عمل إرهابي ضدّ مسؤولين وشخصيات شيعية ومسيحية وسنّية معتدلة لإثارة الفتنة.
2- إنخراط الجيش اللبناني، بنجاح، في حربٍ حازمة ضد «داعش» ورديفاتها، خصوصاً في البقاع الشمالي، فيما خلاياها موضع رصدٍ مركَّز في المناطق الأخرى، من الشمال إلى البقاع والعاصمة والجبل فالجنوب. وتمكَّن الجيش من تثمير الدعم الدولي بالمعلومات والعتاد لتنفيذ مهمات نوعية.
3- محاولة «داعش» فتح «بازار» مع لبنان يساهم في تنفيس الاحتقان العسكري الذي تعيشه في القلمون وجوار دمشق، والذي سيكون من مصلحتها تعويضه بالتوسُّع غرباً صوب عرسال. وفي يد «داعش» ورقة العسكريين المخطوفين الذين لا تتوافر معلومات عن مصيرهم.
4- السعي إلى جذب البيئة السنّية اللبنانية للانحراف نحو خياراتٍ متطرفة، بعدما فشلت المحاولات السابقة كلها، على رغم التحديات الخطرة التي تعرّضت لها هذه البيئة. وهي تجاوبت سريعاً مع عودة الحريري إلى لبنان، وأظهرت أنها لم تخرج عن الخيارات اللبنانية التقليدية، المعتدلة والمتعقّلة.
5- تجميد المملكة العربية السعودية مساعدات يحتاج إليها الجيش في حربه على «داعش». فقيام هذا التنظيم بتصوير الجيش اللبناني وضباطه وكأنهم يواجهون أهل السنّة في لبنان، هو محاولة لتحريض العالم العربي والإسلامي على الجيش وإظهار «داعش» أكثرَ حرصاً من المملكة على السنَّة.
كثيرٌ من المحلّلين والخبراء في شؤون المنظمات الإرهابية يعتقدون أنّ تهديدات «داعش» غالباً ما تكون بمثابة رسائل سياسية فقط. ولكنهم يضعون في حسبانهم احتمالَ لجوء التنظيم إلى تنفيذ بعضها، وفقاً للحاجة.
ولذلك، يهتمُّ المعنيون بالأمن، بعد تهديد «داعش» الأخير، بمنع حصول مفاجآت أمنية قد تفتعلها، سواءٌ بارتكابها عمليات تستهدف الأمن الشخصي لمسؤولين وشخصيات سياسية، كالحريري أو سواه، أم بمحاولتها اللعب بالاستقرار وإشغال الجيش والقوى الأمنية. فالتسجيلُ المنسوب إلى «داعش»، زاد في مستوى استنفار القوى العسكرية والأمنية على مختلف المستويات. ورفعت الشخصيات اللبنانية المعنية من مستوى احتياطاتها الأمنية.
وسابقاً، إستُخدِمَ عنوانُ الإرهاب التكفيري، في عمليات استهدافِ شخصيات لبنانية، ومنهم الرئيس رفيق الحريري، بمعزل عمّا إذا كان استخدام هذا العنوان في محلِّه أم جرت الاستعانة به للتغطية على العناوين الحقيقية.
في أيّ حال، في منطق الأمن، يجدرُ التعاطي مع تهديدات «داعش» الأخيرة على أنها إنذارٌ أمني يستحقّ المتابعة، ولا يجوز التعاطي معه بالتجاهل، خصوصاً أنه صادر عن تنظيم إرهابي غامض، لا عن ميليشيا لها هيكلية واضحة ومرجعية معروفة.
ولذلك، تتحدث المعلومات عن احتياطات أمنية إضافية يتخذها المعنيون بالتهديد «الداعشي» الأخير، سواءٌ في ما يتعلق بأمن الشخصيات، ولا سيما منها بري والحريري، أو في ما يخصّ الجيش ورصد الخلايا النائمة.
ويكمن خطر «داعش» في كونها تنظيماً غامضاً. وعلى رغم الصورة الطاغية عنه، صورة التنظيم السنّي السلفي الذي يعتمد الإرهاب سبيلاً لبلوغ أهدافه، فإنّ عدداً من الخبراء يعتقدون أنّ «داعش» تتجاوز ذلك ليكون عنواناً يتمّ استخدامه من خلال شبكة العلاقات المعقَّدة بين أجهزة الاستخبارات الإقليمية والعالمية.
ويتحدث المطّلعون عن 3 مكوِّنات ينتمي إليها قادة التنظيم:
1 – هناك قادة «داعش» الذين يتحرّكون بدفع جهات إقليمية، عربية وغير عربية، في اعتبار التنظيم جزءاً من أدوات المواجهة الإقليمية مع المحور الإيراني.
ويتردَّد هنا أنّ تركيا وقطر ودولاً عربية أخرى دعمت «داعش» في فترات مختلفة، قبل أن يعمد البعض منها إلى سحب يده من التنظيم خوفاً من ارتداده عليه في الداخل.
2 – هناك قادة من «داعش» تخرقهم طهران وتحرِّكهم، بعدما نجحت في إنتاجهم وتشغيلهم كإطار مموَّه بلافتة السلفية السنّية. ولذلك، يفهم الخبراء لماذا يتعاطى النظام السوري مع «داعش» بطريقة تدعو إلى الاستغراب والتساؤل أحياناً، ولماذا تبدو حدّة المواجهة بين الطرفين معقولة، فيما الحرب قاسية مع «النصرة» وأخواتها.
3 – هناك قادة «داعش» «البلديون»، أولئك الشيوخ المتزمّتون دينياً في سوريا والعراق وسواهما. وهؤلاء هم فعلاً يعتنقون الفكر الإسلامي السلفي، وهم ليسوا نتاجَ أجهزة الاستخبارات الخارجية، ولكنهم باتوا اليوم جزءاً من عملية الاستغلال في لعبة المصالح الخارجية.
وفي النهاية، ينظر الباحثون الكبار إلى تركيبة «داعش»، منذ بداياتها في العراق، على أنها الوريثة الشرعية لجهاز استخبارات الرئيس السابق صدام حسين. فالبعثيون هم أكثر الذين تحوّلوا إلى «القاعدة» ثمّ «داعش»، وفي فترة النفوذ الأميركي المباشر. وستنتهي «داعش» عبوة ناسفة انفجرت ولم يبقَ من أثرها إلّا الشظايا المتناثرة. ولذلك، لن يستفيد أحد من نهايتها.
وبناءً على هذه المعطيات حول هوية «داعش»، يصبح ممكناً البحث في مغزى تهديدها أخيراً باستهداف سياسيين وطوائف في لبنان. ويبدو منطقياً القول إنّ الأجهزة الإقليمية التي تقف وراء «داعش» وتشغِّلها تريد توجيه الرسائل الأمنية في لبنان.
ويكون ذلك إما بالتهديدات فقط، وإما بتنفيذ بعضها. وفي الحالين، تثير التهديدات مخاوف من وجود نيّة لدى بعض الأطراف لضرب الاستقرار في لبنان وابتزاز مسؤوليه وسياسييه، سعياً إلى تحقيق هدف معين.
مَن هم مشغِّلو «داعش» في لبنان؟ وما الذي يريدون تحقيقه في الوقت الحاضر؟