كتب سامي كليب في صحيفة “السفير”:
نجحت قنبلة فلاديمير بوتين. أصابت أهدافها تماماً. صارت الحدث الأول في العالم. حجبت كل ما عداها من حروب وويلات. لاقت ترحيباً من خصومه وخصوم النظام السوري وإيران. يكفي أن ينظر المرء إلى حجم البلبلة وعدد التصريحات وتضارب المقالات وتسارع الحركة الديبلوماسية، ليفهم ماذا كان المقصود.
كان إعلان الرئيس الروسي البدء بسحب قواته من سوريا، كالنار في الهشيم. أنقذ مفاوضات جنيف من الانهيار. مهّد لانفراجات أخرى. وضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية. ساعد نظيره الأميركي باراك أوباما على المضي قدماً بالدفاع عن الحل السياسي ذي النكهة الروسية. ساعده أيضاً في الضغط على حلفائه إلى أقصى حد. صارت المعارضة والسعودية في طليعة من يرحبون بالموقف الروسي، متمنين أن يفضي إلى هيئة انتقالية بكامل الصلاحيات. هو لا شك سيفضي إلى هيئة انتقالية، أما الصلاحيات فهذه مسألة أخرى.
في حقيقة الأمر، فإن بوتين لم يغير شيئا بالنسبة لوجوده في سوريا، لماذا؟
أولاً: إن القوات التي تم أو يستمر سحبها، هي تلك التي أُرسلت مؤخراً استعداداً لمواجهة محتملة مع تركيا. أي أنها كانت الفائض الممكن الاستغناء عنه في أي وقت. (زيارة أحمد داود أوغلو إلى طهران كانت بداية التحول التركي على ما يبدو، فزال الخطر حالياً).
ثانياً: إن الصواريخ بعيدة المدى أو القاذفات الإستراتيجية التي أدخلت في لحظة الخطر التركي والأطلسي مكلفة جداً، وما عاد لها ضرورة في الوقت الراهن.
ثالثاً: إن القوة الضاربة الروسية الجوية والصاروخية والتي تعتبر جزءا مهما من قاعدتَي طرطوس وحميميم لم ولن تتحرك، فهذه عماد الإستراتيجية العسكرية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، ومتراس الحضور السياسي الروسي وقلعته. هل ثمة مجنون أو ساذج يعتقد أنها ستسحب؟
رابعاً: قالها بوتين صراحة أمس: «إن روسيا قادرة على زيادة قواتها في سوريا خلال ساعات إذا دعت الضرورة».
خامساً: مقابل بعض ما تم سحبه، وصلت طوافات مقاتلة حديثة من طرازي «مي 28 أن» و «كا 52»، واستمرت الاستعدادات في سياق محاربة الإرهاب ومساندة الجيش السوري وحلفائه إذا ما دعت الحاجة.
سادساً: ستبقى القوات الروسية متأهبة لصد أي محاولة اختراق عسكرية لسوريا أو لأي تحرك أطلسي أو تركي أو آخر. فالرئيس الروسي كرر التمسك بالقانون الدولي (وفي ذهنه طبعاً كذبة الأطلسي في ليبيا ويوغوسلافيا السابقة)، وقال: «لا يحق لأحد أن يتدخل أو يخرق المجال الجوي لبلد ذي سيادة مثل سوريا»، ملمحا إلى إمكانية استخدام الصواريخ الروسية لمنع ذلك.
لو أضفنا إلى ذلك، أن التحضيرات العسكرية السورية ومن قبل «حزب الله» كبيرة باتجاه استكمال المعركة ضد الإرهاب واستعادة السيطرة على مناطق جديدة (تدمر مثلاً) قريباً، فهذا يعني أن موسكو، التي ستُبقي على مستشاريها العسكريين في خدمة الجيش السوري وحلفائه لفترة غير قصيرة، باتت أكثر اطمئناناً على هذا الجيش وحلفائه في تحقيق الإنجازات العسكرية المطلوبة على الأرض.
كان كلام الرئيس الروسي أمس واضحا في هذا السياق. قال: «إن القوات السورية باتت تسيطر على مواقع إستراتيجية، وإنها تواصل تطهيرها من الإرهاب». وكرر الإشارات الإيجابية حيال الرئيس السوري بشار الأسد، الذي قال إنه «يتوق بصدق إلى السلام». (لعله أدرك أن قنبلته أصابت مؤيدي الأسد بالإحباط فأراد تصويب البوصلة).
هل شركاء روسيا مرتاحون؟
نعم، يسارع المسؤولون في سوريا والمقاومة إلى الرد من دون تردد. يكاد بعضهم يوحي بأنه كان شريكاً فعلياً في القرار الروسي. يؤكدون أن «التفاهم بين روسيا وسوريا وإيران أكبر مما يعتقد كثيرون، وأن هذه الخطوة بالذات جاءت منسقة تنسيقاً كاملاً، وأنها ليست وليدة ساعتها إنما ثمرة نقاشات مستفيضة استمرت أياما».
لليوم الرابع على التوالي منذ إطلاق قنبلة بوتين، يحرص المسؤولون في دمشق والمقاومة على التخفيف من البلبلة والقلق اللذين أثارهما قرار سحب القوات الروسية. يؤكدون أن الهدف هو إحراج الخصوم وليس الشركاء والحلفاء. يشرحون أن بوتين يستعجل الحل السياسي ليس بسبب التكاليف العسكرية فقط (وهي في المناسبة أقل من نصف مليار دولار وفق تصريح الرئيس الروسي)، وإنما للإفادة من الزخم الحالي قبل انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما.
يذهب أحد هؤلاء المسؤولين إلى حد القول إن «العلاقة الإستراتيجية بين روسيا وإيران وسوريا أقوى من أي وقت مضى، وإن بوتين نفسه أعرب أكثر من مرة عن إعجابه بدقة وعمل مقاتلي حزب الله وإيران».
ومن لندن يتصل أحد العارفين جداً بالموقف الأوروبي، فيقول: «يدرك بوتين أن الأشهر المقبلة لن تكون سهلة، ويعرف أن اللوبي الذي ضغط كثيرا لفرض عقوبات على بلاده بسبب أوكرانيا لم ولن يهدأ. بوتين على يقين بأن الغرب يريده ضعيفاً قبل الانتخابات الرئاسية الروسية المقبلة، ولذلك فلن يتخلى مطلقاً عن الجبهة السورية ولا عن شركائه في تلك الجبهة، وكل ما يريده حالياً هو تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية لمصلحته ومصلحة هؤلاء الشركاء في لحظة الانكفاء الأميركي. قد يربح الرهان فعلا، ولكنه في كل الأحوال لن يخسر شيئا إن حاول».
لكن ماذا يربح الآخرون في الصفقة الدولية والإقليمية؟
أقصى ما يمكنهم ربحه، هو إنهاء عصر أوباما بمناخ سياسي إيجابي في سوريا، وإشراك بعض الدول العربية بالمنظومة الدولية في ضرب «داعش»، وتسهيل خروج السعودية بحل سياسي يحفظ ماء وجهها في اليمن، وتوسيع المشاركة السياسية في سوريا إلى أطياف المعارضة دون إحداث انقلاب كبير في النظام أو رحيل الرئيس الأسد. يقول المعجبون ببوتين.
هكذا يقول أيضاً المسؤولون في سوريا ومحور المقاومة، وهكذا ترشح معلومات من موسكو.
فهل ما يقولونه صحيح، أم يريدون تخفيف وقع الصدمة التي أحدثتها القنبلة الروسية؟
ربما في الأمر شيء من الإثنين، فشظايا القنبلة لا تزال تتفجر، والتحليلات تتناقض، والمعلومات تتصارع، والصورة لم تكتمل، وكل طرف يريد تصوير الأمر فوزاً له. الثابت الوحيد حتى الآن، هو أن لا تغييرات عسكرية روسية كبيرة على الأرض السورية… وأنه في الصفقات الدولية، لا فوز كاملاً ولا خسارة كاملة. بوتين وأوباما يدركان ذلك، فهل يدركه الآخرون.