خضر حسان
ما إن تطل السيارة أمام مطعم أو مقهى في بيروت، حتى يسارع موظف الـ”فالي باركينغ” الى أخذ السيارة من الزبون. لكن الى أين تذهب السيارة؟ معظم الزبائن لا يعرفون الوجهة، وربما لا يهمهم ذلك، طالما ان سيارتهم بأمان. أما الكلفة، فيمكن النظر إليها من وجهتي نظر، الأولى وجهة النظر اللامبالية، مهما ارتفعت الكلفة، والثانية المغلوب على أمرها، وهي التي “تنزعج” من ارتفاع الكلفة لكنها لا تعترض، إما بسبب عدم امكانية الوصول الى حلّ، وإما تماشياً مع اسلوب الحياة الذي بات يتعامل مع مواقف السيارات وخدماتها على أنه “شبه” قانون، أو عُرف يُطاع.
تضارب تسعيرات المواقف في بيروت أمر تفاقم حتى وصل الى حدود إبتكار اصحاب المواقف لطرق تزيد من ارباحهم بصورة غير قانونية، حتى انهم روّجوا مفهوم اختلاف التسعيرات بين من يريد ركن سيارته طوال النهار، وهؤلاء بمعظمهم موظفون بدوامات رسمية، وبين من يركن سيارته لساعتين او 3، وإذا كان المفهوم الأول يحمل شيئاً من “المنطق” الا انه من غير المنطقي تعميم هذا المفهوم ليصل الى حد استيفاء رسوم مرتفعة جداً على من يركن سيارته لبضع ساعات، فهل يعقل ان غالبية السيارات في المواقف تُركن طوال النهار؟، وماذا عن فترة ما بعد الدوام الرسمي؟ لماذا تبقى التسعيرة مرتفعة؟.
يقول أحد أصحاب المواقف في منطقة “الحمرا” في بيروت، لـ “المدن”، ان التسعيرة عموماً مقبولة إذا ما كانت بحدود 3000 ليرة للساعة الواحدة، لكنه سرعان ما يكشف بأن هذا الرقم فرضه واقع الحاجة الى مساحات إضافية في بيروت، فأصحاب السيارات يريدون ركن سياراتهم وبأي ثمن كان، شرط التخلص من عبء السيارة، والتفرغ لإتمام العمل. يعني ان هذا الواقع أعطى أصحاب المواقف فرصة لفرض شروطهم، في ظل غياب القانون، إن على مستوى عدم ملاحقة الوزارات المعنية للملف، أو على مستوى وجود الدعم والتغطية السياسية للكثير من اصحاب المواقف.
تحول مواقف السيارات من خدمة بسيطة الى مهنة مربحة، دفع بوزارة الإقتصاد الى تسيير حملات مراقبة على تسعيرة المواقف في بيروت، لكن فريق عمل الوزارة المتواضع، جعل المهمة صعبة، وفق ما تقوله مصادر “المدن”. وبالرغم من ذلك، فإن الوزارة كثّفت حملاتها، لكنها اصطدمت بعراقيل عدة، منها تضارب الصلاحيات بينها وبين وزارة السياحة ومحافظة بيروت، إذ أن نوع المواقف يحدد الجهة المختصة للنظر بعمل الموقف وتسعيرته وما الى ذلك. وتشير المصادر الى ان المواقف المكشوفة تخضع لسلطة وزارة السياحة، في حين ان المواقف المغلقة هي من مسؤولية محافظة بيروت، واللافت ان المواقف المغلقة ليس لديها اي تحديد لتسعيرتها، وهو ما يجعل العقدة الاكبر من نصيب هذا النوع من المواقف. وتضارب المصالح وغياب الرقابة، يتكاملان مع الدعم السياسي للكثير من اصحاب المواقف، ما يؤدي الى وجود قطبة مخفية – على حد تعبير المصادر – في هذا الملف، فالربح المادي والسياسة يجعلان من مواقف السيارات سوقاً مربحة لها “حيثيات” سياسية تمنع المساس بها. وعليه، تصبح عملية ضبط تسعيرات المواقف ومخالفاتها، ومنها تقاضي المواقف لبدل الوقوف، في حين انهم يركنون السيارات على جانبي الطريق، وبالطبع لا يخاف هؤلاء من مخالفات السير لأنهم في الاصل محميون سياسياً، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الاتصالات التي تتلقاها وزارة الإقتصاد للتساهل مع بعض اصحاب المواقف، لكن الوزارة بحسب المصارد، تدير الأذن الصماء، وتمضي بعملية الرقابة. لكن “تعترف” المصادر بأن اتمام الرقابة على هذا النحو، لا يمكن الاستمرار به لفترة طويلة، دون تعثر، لأن التغطية السياسية ستستمر، وليس مستبعداً ان تصل الى تدخل مباشر وواضح، لحماية تلك المواقف.
وما يحصل في “قطاع” مواقف السيارات، ليس أمراً فريداً من نوعه، بل ان هذا النموذج معمم على قطاعات أخرى، مثل توزيع الكهرباء والمياه، فأصحاب المولدات ايضاً يفرضون تسعيرات مختلفة، وهؤلاء محميون سياسياً بحسب المناطق وانتماءاتها السياسية والطائفية. وللمفارقة، فإن منظومة اصحاب المصالح تلك، لا تهتك فقط مصلحة المستهلك، بل تهتك ايضاً مصلحتها هي، لأن أصحاب مولدات الكهرباء، هم مستهلكون في مواقف السيارات، ومستهلكون لدى موزعي المياه، وعليه، فإن كلّ منهم يسرق الآخر دون وجه حق، وهكذا تتكامل حلقة الإستغلال وخرق القانون.
في المقابل، ترى مصادر “المدن” في وزارة السياحة أنّ الوزارة لطالما حرصت على تطبيق القانون في ما يتعلق بصلاحياتها، فهي لا تعطي ترخيصاً لمطعم لا يملك موقفاً او يتعاقد مع موقف، لكن مع الوقت، وبفعل التغطيات السياسية “فلت الملق”. الأمر الذي يعني بأن المشكلة ليست في التسعير بل في التوزيع السياسي للنفوذ في الشارع، فالتسعيرة وإن كانت مرتفعة، يمكن ضبطها ما إن تُضبط التدخلات السياسية. ومع تشعب الفوضى يصبح البدء من نقطة محددة أمراً صعباً، لذلك نرى استحالة ضبط تسعيرات المواقف او حتى ضبط استغلال المساحات العامة لركن السيارات. وتلفت المصادر النظر الى ان وزارة الداخلية تتحمل مسؤولية عدم التشدد في تسجيل مخالفات سير للسيارات المركونة على جوانب الطرق بشكل مخالف للقانون، حتى وان كانت السيارة بعهدة مطعم او مقهى يتذرع بموقفه لركن السيارة على جانب الطريق.
إختلاف الأصوات المعالجة لملف مواقف السيارات وتشعب المصالح وتداخلها، تعني أن ضبط مواقف السيارات قد تحوّل الى حملة مكافحة غذاء جديدة، حيت تتم فيها محاسبة “الرؤوس” الصغيرة، والتغاضي عن الرؤوس الكبيرة التي تحمي عملية الإحتكار والربح الأكبر.