ميغيل هيلفت
أول ملاحظة تشعرك بأن جون وباتريك كوليسون، اللذين أسسا شركة المدفوعات الإلكترونية (سترايب- Stripe) غير مهتمين كثيراً بالشكليات المتبعة في المؤسسات: حقيبة ظهر موضوعة بمحاذاة إحدى الطاولات يدرك الموظفون بوجودها أن الرئيس جون كوليسون موجود في الشركة. فليس لديه مكتب أو حتى طاولة للعمل، لذلك فهو يعمل غالباً على طاولة مشتركة في الطابق الأرضي حين تتوافر له. أخوه الأكبر باتريك، الرئيس التنفيذي للشركة، وضعه أفضل بقليل، إذ لديه مكتب صغير محصور بين جدار ومكتب الإدارة التي يتشاركها مع أخيه. يقول جون: “من الجيد أن يكون لك مكان تضع فيه أغراضك، لكن أي مكتب لن يكفي لكمّ الأغراض التي سنضعها فيه، لذلك ربما كان الوضع أفضل هكذا”.
نقص المكاتب لم يمنع الأخوان كوليسون، 25 و27 عاماً، المهاجران الإيرلنديان اللذان انسحبا من الجامعة في سن الـ20، من بناء إحدى أهم الشركات الناشئة في قطاع الخدمات المالية. بعد 5 سنوات من إنشائها وسنتين من دخول الأخوين إلى قائمة فوربس (30Under30)، تخطو (سترايب) خطوات واسعة وسريعة نحو هدف الأخوين المتمثل في إحداث ثورة في مجال المدفوعات الإلكترونية. خلال العام الماضي، ضاعفت الشركة عدد موظفيها ليصل إلى 380 موظفاً، وجذبت استثمارات جعلت قيمتها 5 مليارات دولار، من أصل 3.5 مليار قبل عام مضى. “تبلغ قيمة (سكوير- Square) العامة 4 مليارات دولار حالياً”. بعد أن كانت مجرد خدمة أمريكية تستهدف عملاء المصارف، أصبحت (سترايب) منتشرة في 23 دولة، وتعقد شراكات مع أمثال (فيزا) و(أبل) (باي) و(علي بابا). أما (فيسبوك) و(تويتر) و(بنترست) فقد اختارت (سترايب) لدعم جهودها في التجارة الإلكترونية، كما اختارت شركات التجزئة التقليدية، مثل (Best Buy) و(Saks Fifth Avenue)، (سترايب) لانطلاق مساعيهم في مجال المدفوعات الإلكترونية. ومؤخراً حولت (سلاك- Slack) مدفوعاتها إلى (سترايب) بعد التخلي عن منتج منافس.
(سترايب) شركة خاصة وترفض الإفصاح عن إيراداتها. في حين أن معظم عملائها وعددهم بمئات الألوف هم عملاء صغار نسبياً، هناك بعض العملاء المميزين؛ (Lyft) و(Shopify) و(Kickstarter) و(Postmates) و(Wish) الذين يعالجون مدفوعات بعشرات المليارات مجتمعين، وغالبيتها عن طريق (سترايب). تقدر مصادر القطاع حجم مدفوعات (سترايب) بنحو 20 مليار دولار سنوياً. مقابل كل تعامل تعالجه، تحصل (سترايب) في الولايات المتحدة على رسم نسبته %2.9، إضافة إلى 30 سنتاً، وهو تقريباً ما تتقاضاه شركات المدفوعات الأخرى مثل (سكوير)، على الرغم من أن العملاء الكبار يحصلون على خصومات على المعاملات الكبيرة. وهذا يجعل إيرادات (سترايب) تقدر بأكثر من 450 مليون دولار. تقول الشركة إن %27 من الأمريكيين اشتروا شيئاً ما عبر (سترايب) في العام الماضي، وهذا يشكل زيادة ملحوظة مقارنة بـ%3.8 قبل عامين. مع ذلك، يظل الأخوان كوليسون حذرين. يقول باتريك: “على الرغم من سعادتنا بالنجاح الذي تحقق حتى اللحظة، ما زلنا بعيدين عن تحقيق الأهداف التي وضعناها لأنفسنا. إذا اعتقد أحد هنا بأن (سترايب) قد بلغت أقصى غاياتها الآن، سيشكل هذا مشكلة كبيرة لنا”.
نجاح (سترايب) في جعل المدفوعات الإلكترونية عملية سهلة ليس سوى خطوة نحو طموحها الأكبر: أن تصبح النموذج الذي يتبعه الآخرون في صياغة أشكال جديدة من التجارة. المسألة شبيهة بخدمات (أمازون) الإلكترونية، التي تدعم جميع أنواع شركات الإنترنت، ولكن بالتركيز على المعاملات المالية. إن تقنية (سترايب) تدعم بالفعل خدمات الاشتراك مثل (سلاك)، والأسواق التجارية مثل (ليفت) ومواقع التمويل الجماعي مثل (كيكستارتر). وفي هذا العام حققت دفعة قوية باتجاه ما يتنبأ بعض المحللين بأنه التوجه الضخم القادم في عالم المدفوعات الإلكترونية: ألا وهو “شراء” أزرار تتيح لباعة التجزئة البيع مباشرة للمستهلكين على تطبيقات أخرى مثل (فيسبوك) و(بنترست) و(تويتر).
تواجه الشركة منافسين شرسين؛ (Braintree)، التي تملكها (PayPal)، قالت إنها ستعالج نحو 50 مليار دولار هذا العام، أكثر من ضعف حجم ما تعالجه (سترايب)، ولديها عملاء كبار مثل (أوبر) و(Airbnb). كما أن (Adyen)، شركة ناشئة أوروبية سريعة النمو، أكبر حجماً، وتدخل الأسواق الجديدة بقوة.
لكن لكون %2 تقريباً من التجارة العالمية تحدث إلكترونيا حسب تقديرات (سترايب)، يعتقد الأخوان كولسيون؛ ومستثمروهما الذين يشملون (Sequoia Capital) و(Andreessen Horowitz) أن الفرص هائلة، وتكفي الجميع. العدو الأكبر للشركة سيكون الخطوات غير المحسوبة التي تتخذها. يقول باتريك: “هناك درجة أعلى من التميز التشغيلي مطلوبة من (سترايب) مقارنة بغيرها من الشركات”. (بمعنى أن التعامل بأموال الغير يقتضي من المرء درجة أعلى من الحذر والانتباه). وأضاف: “استطاعت (سترايب) تنظيم نفسها، والعمل في مجال معقد بطبيعته. والآن علينا أن نفعل الشيء ذاته في ظل حجم مضاعف للشركة”.
إن الجمع بين النجاح والتواضع وعمق التفكير أمر اعتيادي بالنسبة للأخوين كوليسون، وسبب كبير في تفاؤل الكثيرين حيال مستقبل (سترايب). لقد وصف عضو مجلس الإدارة في (سترايب) مايك موريتز من شركة (سيكويا كابيتال) الأخوين كوليسون بأنهما من “أذكى” الناس الذين قدم لهم الدعم، وهذا ثناء عظيم من شخص موّل شركات ضخمة مثل (باي بال) و(ياهو) و(غوغل).
إن الأخوين يتقاسمان المسؤولية فيما يتعلق بالمنتجات، ولكن جون يدير الشراكات والمبيعات فيما يركز باتريك على الهندسة وهو الواجهة العامة للشركة. يقول ديفيد لي، الذي دعم مئات الرياديين حين كان يدير شركة (إس في أينجل- SV Angel)، أحد أهم صناديق الاستثمار في مجال التقنية: “باتريك هو ليبرون جيمس الرياديين. أنه ذكي، وذو شخصية جذابة، وقائد متمكن وعميق التفكير ومتزن. من النادر إيجاد هذه الصفات كلها في شخص واحد”. تعلم الأخوان البرمجة في سن مبكرة وباعا شركتهما الأولى (Auctomatic) مقابل 5 ملايين دولار، وهما في سن المراهقة. باتريك، الذي درس في معهد (ماساتشوستس للتقنية) لفترة وجيزة، قارئ نهم يملك قائمة بنحو 600 كتاب في مواضيع مثل الفيزياء والبرمجة والنقد الأدبي والاقتصاد. “لقد اعترف في رسالة نصية بأنه أنهى قراءة 30 إلى %40 منها فقط”. جون، الذي ترك الدراسة في (هارفارد)، أهدأ من أخيه لكنه لا يقل عنه فصاحة أو عمقاً في التفكير.
حينما تأسست (سترايب) لم يكن طموحها أن تكون شركة حقيقية. أراد الأخوان ببساطة حل مشكلة واجهاها كمطوري تطبيقات: إذ بينما بسّط الإنترنت والهواتف النقالة إنشاء الخدمات وانتشارها عالمي، ظل دفع المال مقابل الحصول عليها معقداً جداً. لذلك أنشأ الأخوان نظاماً مكّن المطورين من قبول المدفوعات في غضون دقائق معدودة. بعد إطلاق الخدمة في عام 2011، لاقت انتشاراً سريعاً مع تطبيقات أخرى، ومن ثم مع شركات كبرى.
في البداية، قام جون وباتريك بكل شيء: كتبا الرموز وأدارا بطاقات خدمة العملاء وتعاملا معهم. لكن ما لبثا أن أدركا أن عليهما توسيع تركيزهما ليشمل إدارة المؤسسة بكاملها. يقول جون: “ينبغي على الشركة ألا تتجاوز قدراتها”. أمضى الأخوان شهوراً في انتقاء أول 10 موظفين لهم، علما منهم بأن هؤلاء هم من سيجذبون الدفعة التالية من الموظفين. لقد خصصا %10 من أسهم (سترايب) لهذا الطاقم الأول؛ ويعد هذا قدراً كبيراً، وعملا إلى جانب العديد منهم لمدة أسبوع أو أكثر قبل الموافقة عليهم. في النهاية، اتضح أن جميع المرشحين الذين اختاروهم كانوا هم أنفسهم مؤسسو شركات سابقون.
تتصف (سترايب) اليوم بمهنية أعلى بكثير، ولكنّها تحافظ على الأسلوب ذاته في التوظيف. على سبيل المثال، أي شخص يقابل مرشحاً لديه حق الرفض، وعندما يتفق المؤسسان على شخصية بارزة، يفعلان ما بوسعهما لاستقطابه. يقول باتريك: “إنه أمضى 50 ساعة محاولاً استقطاب كلير هيوز جونسون”، التي مارست أدواراً متنوعة لدى (غوغل)، حيث أدارت مؤخراً مشروع الشركة الخاص بالسيارات ذاتية القيادة قبل أن توافق على الانضمام إلى (سترايب)، لتصبح الرئيسة التنفيذية للعمليات.
لقد أثمرت جهود التركيز على بناء الشركة في البداية. استطاعت (سترايب) تجنب إخفاقات المنتجات وطاقم العمل رغم تضاعف حجم الشركة كل عام. تتدفق المواهب إلى (سترايب) بسبب نموها، ولكن أيضاً بسبب أن الناس يريدون العمل لدى الأخوين كوليسون. يقول آرون ليفي، الرئيس التنفيذي لشركة (Box)، الذي قدم المشورة لكل من باتريك وجون: “إنهما من أكثر الأشخاص شعبية في وادي السليكون”. لقد نمت دائرة المبيعات من بضعة أشخاص إلى 20 موظفاً في العامين الماضيين. ولتفادي فقدان المناطق الخارجية لصالح (أيدين) وغيرها، جلبت (سترايب) 70 موظفاً للعمل مع البنوك والجهات التنظيمية والعملاء في الخارج، مقارنة بفريق قوامه 5 موظفين قبل عامين.
شهدت (سترايب) نمواً الى جانب بعض أنجح عملائها بفضل بقائها رشيقة الحركة. عندما قررت (ليفت) في بداية 2015 أنها تريد طريقة لدفع المال لسائقيها بسرعة أكبر، اتجهت صوب (سترايب). في ديسمبر/ كانون الأول، أطلقت (ليفت) خيار (Express Pay) الذي يتيح لها دفع المال لسائقيها فوراً مقابل رحلاتهم بدلاً من جعلهم ينتظرون بضعة أيام. تطلبت الخاصية من (سترايب) تخطي الشبكة التقليدية الإلكترونية للمدفوعات المسماة (ACH) واستحداث خدمة ترتبط بالحسابات المصرفية للسائقين عبر بطاقاتهم الائتمانية. تقول تالي رابابورت، نائب رئيس المنتجات لدى (ليفت): “هذا شيء مهم لسائقينا. إنه ميزة رائعة”.
بشكل مماثل، اتجهت (تويتر) صوب (سترايب) لتبدأ مسعاها الأول في مجال التجارة الإلكترونية، حيث أرادت أن تسهل على ألوف بائعي التجزئة، الكبار والصغار، بيع بضاعتهم عبر شراء زر على تطبيقها. كان التحدي معقداً للغاية. والسبب في ذلك جزئياً يعود إلى أن التجار يستعملون عشرات المنصات التقنية المختلفة لدعم متاجرهم. يقول ناثان هبارد، نائب رئيس التجارة في (تويتر): “إحدى قيم (تويتر) الجوهرية، التي نشارك (سترايب) فيها، هي التبسيط. لقد بسطت (سترايب) شبكة المدفوعات المعقدة أمام المطورين والناشرين ولم نعد نقلق بشأنها”.
كما شكل العمل مع (تويتر) الأساس لـ(Relay) وهو منتج (سترايب) الذي يتيح لتجار أخرين البيع بسهولة عبر تطبيقات الطرف الثالث. قدرة (سترايب) على تبسيط التعقيد هو أيضاً ما أقنع ستيوارت باترفيلد، الرئيس التنفيذي لشركة المراسلات المؤسسية (سلاك). في هذا العام، تخلت (سلاك) عن (برينتري) لصالح (سترايب) لقدرتها على التعامل مع عملات ومدفوعات مختلفة ودمجها مع برمجية المحاسبة للشركة. يقول باترفيلد: “هناك أشياء معقدة كثيرة ترتبط بصعوبة تحويل الأموال. (سترايب) جعلته أسهل بكثير”.
يصف موظفو (سترايب) مهمتهم أحياناً بأنها المساعدة في زيادة “الناتج المحلي الإجمالي” للإنترنت. لاشك أن هذا الناتج سيزداد بوجود (سترايب) أو عدمه. ولكي يتاح للأخوين كوليسون ممارسة دور حيوي، عليهما الانتقال بـ(سترايب) من دائرتها الضيقة إلى عالم التجارة العالمية. وعليهما أيضاً مواصلة تطوير المنتجات مثل (Relay) التي تسهل اتباع أنواع جديدة من التجارة مهما كان شكلها. (بيبي- Beepi) أحد عملاء (سترايب) سريعي النمو، وتبيع السيارات المستعملة إلكترونياً وعبر تطبيقاتها على الهواتف النقالة وتوصلها إلى منازل العملاء. (بيبي)، التي تعد سياراتها المباعة من بين الأغلى سعراً على (سترايب) ستبدأ قريباً بمعالجة مئات ملايين الدولارات عبر النظام كل 3 أشهر، وفقاً للرئيس التنفيذي، آيل ريزنيك.
بصرف النظر عن نموذج التجارة الذي سيظهر في المستقبل، حتما سيكون الأخوان كوليسون حاضرين لدعمه. ليس هناك حديث حالياً عن إمكانية طرح اكتتاب عام. إذ إن (سترايب) تركز حالياً على الأساسيات. يقول باتريك: “توجد مشكلة في وادي السليكون تتعلق بأن الشركات تتعجل في قراراتها من ناحية تصورها الذاتي للنجاح”. إن أفضل علامة على أن الاخوين كوليسون على أتم الجاهزية للمستقبل هي اعترافهما بمدى صعوبة الطريق الذي ينتظرهما.