كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
أثار إعلان أكراد سوريا تأسيس نظام فدرالي شمالي البلاد، والذي ترافق مع إعلان موسكو تأييدها اعتماد سوريا ما بعد الحرب الصيغة الفدرالية، عاصفة من الردود الرافضة أبرزها كان على الاطلاق من تركيا وايران والنظام السوري اضافة الى موقف أميركي غير متجاوب.
ما من شك انّ مرحلة البحث عن صيغة النظام السياسي لسوريا الجديدة قد بدأت جدياً انطلاقاً من المعادلات الميدانية التي أنتجتها حرب الخمس سنوات، والتي قضَت على كل شيء تقريباً له علاقة بسوريا القديمة.
والذين شكّكوا بوَقف إطلاق النار باتوا على يقين بأنّ الحرب بمعناها الفعلي انتهت ولو انّ الرصاص والقذائف وحتى المعارك قد تستمر في بعض المناطق، مثل تدمر، لأغراض تتعلق بترتيب الخريطة الميدانية.
لذلك، بَدا الاعلان الكردي، والذي جاء بعد إثبات المقاتلين الاكراد دورهم وقدرتهم ونجاحاتهم، بمثابة طلقة الانطلاق في مسار سياسي يجري تثبيت ركائزه من الآن.
في السابق كانت الصفقات الدولية التي تُحاك في الكواليس تأتي على حساب الاكراد، بعد ان يتمّ استخدامهم في الاضطرابات الحاصلة. ولكن مع وصول الاميركيين الى العراق فرضت الحاجة منح الاكراد كياناً ذاتياً شِبه مستقل، وهذا الواقع أنعشَ المجموعات الكردية في سوريا وايران وتركيا حيث يبلغ مجموع الاكراد زهاء اربعين مليون نسمة يسعون الى الوحدة ضمن دولة واحدة مستقلة.
ومع بداية الحرب في سوريا تناغَم موقف اكراد سوريا مع واشنطن الى حين الدخول الروسي الذي تعاون مع الاكراد وذهب أبعد من واشنطن لجهة تسليح هؤلاء وحماية مناطقهم والتحالف معهم، خصوصاً انّ وجودهم يشكل حربة في الخاصرة التركية.
وعلى رغم تفسيرات روسيا لحلفائها بأنّ الكلام الروسي بشأن الفيدرالية جاء رداً على سؤال وفي اطار المبادىء العامة، إلّا انّ طهران ومعها النظام السوري يدركان أنّ لموسكو مصلحة كبرى في تكبير النفوذ الكردي في سوريا ومنحه استقلالية سياسية عموماً وعسكرية وامنية خصوصاً.
وشكّل القرار بانتهاء الحرب في سوريا والتوجّه الى الاعتراف باستقلالية، ولَو محدودة لأكراد سوريا، أحد أبرز نقاط التلاقي بين انقرة وطهران على رغم جبل الجليد الذي يفصل بينهما.
وفيما تعمل طهران على التحرّك من خلال النظام السوري، باشَرت الحكومة التركية في إجراء ترتيبات ديموغرافية على الارض لمواجهة الاحتمالات المقبلة.
فالنازحون السوريون والموجودون في المنطقة التركية الجنوبية، والبالغ عددهم زهاء ثلاثة ملايين، بدأت الدراسات التركية لمنحهم الجنسية التركية حيث السعي للتوازن مع العلويين الاتراك الذين تعاطفوا مع علويّي سوريا، إضافة لنشرهم ضمن شريط حدودي قادر ان يشكّل فاصلاً بين اكراد سوريا واكراد تركيا.
في اختصار، المشاريع قائمة بشأن الصيغة المستقبلية لسوريا والتي ستؤثر بلا أدنى شك في صورة أنظمة الدول المحيطة، خصوصاً انّ ملايين النازحين السوريين باتوا يشكلون عامل تأثير مباشر في هذا الاتجاه.
من هنا، ولأنّ مرحلة التسويات بدأت، يزور الامين العام للأمم المتحدة بان كي كون عواصم المنطقة وهو يحمل ملفاً واحداً: النازحون السوريون.
في لبنان تبدو المهمة أكثر صعوبة ودقة، فالنازحون السوريون باتوا يشكلون أكثر من ثلث اللبنانيين، واذا أضفنا اليهم أعداد اللاجئين الفلسطينيين فإنّ أعداد هؤلاء ستصِل الى نصف اللبنانيين، ما يعني بالمفهوم البنيوي زَوال فكرة لبنان.
ويَتهكّم احد الديبلوماسيين الاوروبيين، المشهود له بخبرته العميقة في شؤون المنطقة وبِبُعد رؤيته، على كلام احد السياسيين اللبنانيين الكبار، والذي قال انّ نظرته الى الواقع السوري صَحّت حيث قال منذ البداية انّ الرئيس بشار الأسد سيرحل، وقال الديبلوماسي الاوروربي انّ هذا السياسي يتعاطى مع الزلزال القائم في سوريا من زاوية المناكفة والتمريك بين “أولاد الحي”.
ومن زاوية المسائل الشخصية ألم يتساءل عن الخطأ لا بل الخطيئة في الانجرار في النزاع الذي حصل في سوريا وغَضّ النظر، لا بل تشجيع، نزوح السوريين الى المناطق اللبنانية؟
ألم يتساءل ايضاً انّ رحيل الاسد عندما سيحصل لاحقاً إنما سيؤدي الى تغييرات جغرافية وديموغرافية عميقة في سوريا، خصوصاً في المنطقة المحيطة بلبنان، ما يعني وقوع لبنان تحت هذا التأثير لعقود عدة مُستقبلاً؟ أيّ سياسة نَسجَ اللبنانيون، ولا سيما منهم المسيحيون، لكل هذه المتغيرات المقبلة؟
وهل انّ تفكير البعض بالسعي لاستيراد النظام الفدرالي في لبنان هو سَعي واقعي ومنتِج أم أنه باب جديد لخسارة معركة اضافية تَرتدّ سلباً على الداخل في مرحلة التسويات في سوريا وفلسطين واسرائيل وعلى قاعدة فتح السوق امام البيع والشراء؟.
في الكواليس الديبلوماسية انّ الرئيس الاميركي باراك اوباما يضغط على فريق عمله لإنجاز التسوية في سوريا قبل رحيله عن البيت الابيض ووَضع الأسس الصلبة للمفاوضات الاسرائيلية ـ الفلسطينين من اجل تسهيل المهمة على الادارة التي ستخلفه.
امّا في الشأن اللبناني فلا شيء واضحاً، والملف اللبناني اصلاً ليس موضوعاً على الطاولة في هذه المرحلة إلّا من زاوية الحفاط على الاستقرار ووجوب انتخاب رئيس جديد للجمهورية من دون الدخول في التفاصيل.
وقيل انّ زيارة بان كي مون للبنان، ولو انها مخصّصة اساساً لملف النازحين السوريين، ستتناول وجوب اجراء الانتخابات الرئاسية في ظل كلام يُهمَس به بشأن احتمال صدور قرار عن الأمم المتحدة في هذا الاتجاه. طبعاً التركيز في الكواليس الديبلوماسية هو في اتجاه الضغط على “حزب الله” لدَفعه الى تليين موقفه وسط ظرف اقليمي ملائم.
والواضح انّ واشنطن تستعد لتنفيذ ضغط اقتصادي على الحزب من خلال إجراءات جديدة تُطاوِل جوانب مرتبطة بالقطاع المصرفي تحت عنوان تجفيف مصادر تمويل حزب الله. لكنّ أحد الديبلوماسيين الاميركيين يعترف بأنّ الاجراءات التي ستتخذ ستؤدي فقط الى “هَزّ” الواقع الاقتصادي اللبناني، وليس أبداً الى إسقاطه، ولو أنها ستُحدِث جلبة واسعة.
وفي موازة ذلك، سيتدخل مجلس الامن الدولي ملوّحاً بالقرار العربي بشأن وضع “حزب الله” على لائحة الارهاب، لكن من دون تَبنّيه. وسيصدر قراره بشأن وجوب إنجاز الاستحقاق الرئاسي. وتتوقع اوساط ديبلوماسية ان تُفضي هذه الضغوط الى مسألتين: الاولى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والثانية تدشين مرحلة جديدة عنوانها التواصل المباشر مع “حزب الله” بعد تثبيت قواعد جديدة للمرحلة السياسية.
امّا بشأن وجود قرار ضمني لدى بعض الاطراف يقضي بالاندفاع في لعبة استيراد قرار أكراد سوريا، وبالتالي فتح باب تعديل الصيغة اللبنانية، ولَو من خلال مداخل مُحقّة، فإنّ ذلك غير مطروح في المرحلة الراهنة وهو مَتروك للعهد الرئاسي الجديد.
وإذ تعترف هذه الاوساط بالمعاملة السياسية غير العادلة التي تحصل في حق المسيحيين سياسياً واقتصادياً وادارياً، إلّا انها ترى أنّ المسألة في حاجة الى توقيت ملائم، فيما المرحلة الحالية هي مرحلة تسويات وصفقات كبرى قد يؤدي الدخول الى رحابها الى أن تتقاسم المجموعات الصغيرة ضرائب الخسائر، لأنّ الارباح يقتطعها الكبار في العادة.
ومن دروس التاريخ انه بدءاً من العام 1986 شَرعت مراكز القرار في واشنطن في وضع أسس ولادة المؤتمر الدولي للسلام. يومها، كان القرار قد صدر بوجوب اجراء مصالحة اسرائيلية ـ فلسطينية وقيام سلطة فلسطينية، ولَو صوَرية. وبالتالي، كان من المفروض على دول المنطقة، وفي طليعتها لبنان الذي كان يعيش “ستاتيكو” الحرب الداخلية، الانتظار والتعايش مع الواقع الراهن وضَبط الساعة على التوقيت الدولي.
لكنّ لبنان اندفع في “حرب التحرير” وفق مطالب محقّة وعادلة بهدف رفع الظلم عنه واسترداد سيادته. إلّا أنّ النتيجة جاءت على أساس إنهاء الحرب وفق “اتفاق الطائف” عام 1990 وعلى حساب المسيحيين لينعقد المؤتمر الدولي للسلام بعده عام 1991.
ويقول الديبلوماسي الاوروبي انّ لبنان لَو انتظر حتى العام 1991، وبالتالي حلول التوقيت الدولي، لكانَ العالم ذهبَ في اتجاه تكريس حلّ لبناني انطلاقاً من واقع الحكومتين اللتين كانتا قائمتين، ما يعني الشروع في واقع فيدرالي يومها، لكنّ الفرصة ضاعت.
امّا اليوم فالظروف اختلفت كثيراً، والتوازنات والاحجام تغيرت، والحرب السورية خلقت معادلات جديدة من لا يراها يثبت مرة جديدة قصر نظره. وبالتالي، فإنّ أي دخول في ايّ مطلب مهما كان مُحقاً وينتج منه ظلماً هو نوع من أنواع الانتحار طالما انّ التوقيت الدولي لم يحن بعد.
فلا بد من انتظار سوريا ثم فلسطين وبعدها سيأتي دور الصيغة في لبنان، ولكن قبل كل ذلك انتخابات رئاسية وتقطيع الوقت وضبط الساعة اللبنانية على التوقيت الدولي.