كتب ابراهيم الأمين في صحيفة “الأخبار”:
مساء اليوم، يتحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن مستجدات تخص جبهة الصراع مع العدو الإسرائيلي، من ضمن ملفات عدة يفترض أن تتطرق إليها مقابلته مع قناة “الميادين”.
صحيح أن الحزب يختار مناسبات محددة للتطرق الى ملف المواجهة مع العدو. وأحياناً كثيرة، يحصل أن تخرج مواقف الحزب، على لسان السيد نصرالله نفسه، ربطاً بحدث ما، مثل لجوء العدو الى اغتيال كوادر من المقاومة في لبنان أو سوريا. وهو، غالباً، ما يسعى الى تثبيت حق الحزب بالرد، وتوجيه رسائل متعددة إلى العدو وإلى الإقليم وإلى الداخل اللبناني حيال ما يفكر به الحزب رداً على اعتداءات العدو. أما بشأن الخيارات الكبرى، فهو يختار مناسبات عامة مثل ذكرى التحرير أو ذكرى القادة الشهداء لتقديم عرض يشير فيه الى جاهزية المقاومة لمواجهة أي عدوان.
المهم، أن استراتيجية الحزب في مخاطبة العدو اختلفت بعد حرب تموز 2006 عما كانت عليه سابقاً. وقرر الحزب، عن وعي، كسر حالة الصمت الكاملة التي تحيط بقدراته وبرامج عمله العسكرية، وربما كان في الأمر خلاصة تعود الى حرب تموز نفسها. وقرر الحزب أنه قد يكون من المفيد في ردع العدو لفت انتباهه لا إلى قرار الحزب بالتصدي له وحسب، بل إلى قدرات الحزب الجديدة أيضاً. وهي رسائل نجحت مرات كثيرة في ردع العدو، أو في جعل أصحاب القرار السياسي والعسكري يدرسون الموقف جيداً.
ظاهراً، لا يشعر أحد من الناس أو حتى من المراقبين المنشغلين بتطورات المنطقة، بوجود ما يبرر خروج السيد نصرالله للحديث عن المواجهة مع العدو. حتى إن البعض يخال أن تسريبات العدو الأخيرة عن قوة الحزب العسكرية وعن خبراته التي تعاظمت بفعل الحرب السورية، هي نوع من الردع الداخلي. أي أن قيادة العدو تخبر شعبها بأن أي حرب مع لبنان ستكون كلفتها باهظة على الجبهة الداخلية. وغالباً ما يلجأ العدو الى إطلاق مواقف على لسان مسؤولين رسميين، سياسين أو عسكريين أو أمنيين، تقول إن إسرائيل ليست صاحبة مصلحة في حصول مواجهة مع الحزب الآن. ولطالما برر قادة العدو هذا المنطق بالقول إن حزب الله يتعرض لعملية إنهاك كبيرة بسبب الحرب السورية، وإنه لا داعي لمنحه فرصة استعادة شعبية وسط الرأي العام العربي إن هو تعرض لعدوان إسرائيلي.
لكن كل ذلك لا يفيد في معالجة أصل المشكلة. أي معالجة مشكلة العدو مع المقاومة لناحية أن قدراتها الدفاعية الهجومية، ودورها في لبنان والإقليم، وحضورها الميداني المباشر في عدد من الساحات العربية. ان كل ذلك، يجعل العدو في حالة قلق فعلي. صحيح أن التقدير قريب جداً من الواقع عندما نقول إن الحزب ليس بوارد بدء حرب مع العدو الآن. لكن الأمر بالنسبة إلى إسرائيل مختلف. هو بالضبط القلق من تراكم الجاهزية لدى هذه الجهة، وعدم تأثرها سلباً بكل ما يجري من حولها، بل قدرتها على تحويل التهديدات الاستراتيجية القائمة في سوريا والعراق والمنطقة العربية، إلى فرصة لتعزيز القدرات وتوسيع دائرة النفوذ الاستراتيجي، ورفع مستوى الجاهزية عدةً وعديداً، والعدو يعلم هنا أن كل هذه القوة تعدّ فعلياً ليوم المواجهة الكبرى معه. وهنا بيت القصيد.
لكن، ما الذي يحصل اليوم؟
إن تبسيط المسألة يساعد على فهم أدق لها. تشرح المعلومات القليلة المتوافرة عما يجري اليوم بعيداً عن الأضواء أنه عبارة عن استعداد من قبل العدو لتوجيه ضربة الى بعض مقدرات المقاومة. قد يحصل الأمر داخل لبنان، أو على الحدود مع سوريا، أو ربما داخل سوريا. لكن المؤشرات تلفت الى أن العدو لا يريد من وراء هذه العملية توجيه ضربة الى بعض القدرات الاستثنائية التي باتت في حوزة المقاومة، بل الاستمرار في محاولة فرض قواعد اشتباك جديدة تقوم على مبدأ أن لإسرائيل الحق في ضرب ما تراه مناسباً، وأن على الحزب إما الامتناع عن الرد (وهذا حصل أحياناً) وإما الرد بطريقة هادئة (لم يحصل ذلك أبداً) وإما الرد بطريقة لها بعدها الإعلامي والنفسي، لكنها لا تلزم إسرائيل برد مقابل.
يبدو أن العدو يفكر أنه يقدر اليوم على رفع سقف المعادلة من جانبه. وهو يراجع مجموعة من المعطيات التي بحوزته، وهي من طبيعة سياسية وعسكرية وأمنية، تجعل صاحب القرار يعتقد أنه الوقت المناسب لتوجيه هذه الضربة، بغية تحقيق أهداف عدة، أبرزها إصابة مقدرات أساسية للمقاومة، والقول بأن إسرائيل غير ملتزمة بأي تعهد حيال مواجهة حزب الله، وأن تستغل المناخ السياسي القائم لدى الحكومات العربية وبعض الأوساط الشعبية العربية، والذي يسوده انتقاد للحزب، للقول بأنها تحاكي محاربة ما وصفه هذا القسم من العرب بإنه “إرهاب”.
أكثر من ذلك، يبدو أن صاحب القرار في إسرائيل يعتقد أن التطورات التي طرأت على الساحة السورية في الأشهر الستة الماضية لا يجب أن تؤثر سلباً على حركتها “الوقائية” إزاء الحزب. وربما هناك من قرأ أن قرار الحكومة الروسية سحب جزء من قواتها من سوريا على أنه تراجع روسي عن الوجهة السياسية حيال ما يجري في سوريا، علماً بأن روسيا لم تتعهد للعدو أبداً بأنها سوف تمنع حزب الله من الحصول على ما يصله من أسلحة، كما لم تتعهد بأنها ستكون وسيطاً مع الحزب.
خشية الحزب من المغامرة الإسرائيلية لا تتصل بخشية من المواجهة نفسها. الحزب يقول صراحة إنه لا يريد الحرب الآن. وهو لا يخفي أبداً استمرار العمل على تعزيز قدراته على مختلف الصعد. لكن الحزب قال مراراً إن انخراطه في الحرب السورية، أو دعم حلفاء له في أماكن أخرى من العالم العربي، لا يمنعه من القيام بواجبه الرئيسي في مواجهة العدو. بل إن العدو بات يعلم أن قوات المقاومة المعنية بالمواجهة مع العدو لم تتأثر فعلياً بكل انشغالات الحزب.
أما بشان الضغوط المفترضة إسرائيلياً على الحزب بسبب الأزمة السورية، فقد أعطى الحزب إشارات كثيرة بأن انخراطه في الحرب السورية لم يكن ليلزمه بأي تنازل في مواجهة العدو. بل حصل العكس، فجبهة الجولان، التي كانت ممنوعة على الحزب وعلى المقاومة لأسباب كثيرة، ها هي اليوم مفتوحة ولو وفق حسابات دقيقة وخاصة. أما بشان الدور الروسي، فإنه يمكن القول الآن، وبصراحة، إنه لا وجود لتواصل فعلي بين الحزب وروسيا حتى يمكنها القيام بهذا الدور، أو حتى نقل رسائل من العدو. والجميع يعرف قرار الحزب الصارم بمنع كوادره ومسؤوليه من التواصل المباشر مع الروس، وخصوصاً في الميدان، وأن يتم الأمر إما عن طريق إيران أو عن طريق سوريا.
كل ذلك يعني، ببساطة، أن السيد نصرالله يجد نفسه ملزماً بإفهام العدو بأن أي مغامرة جديدة، ولو على شكل اعتداء، سيقابلها رد حتمي. لكن السيد نصرالله معنيّ اليوم بإفهام العدو أن هذا الرد سيكون واضحاً وبطريقة مختلفة عما حصل سابقاً. وهو أمر سيوجع إسرائيل أكثر مما تعتقد، كما سيقول السيد نصرالله إنه إذا قرر العدو التدحرج في مغامرة من اعتداء إلى مواجهة، إلى حرب شاملة، فإن المقاومة في لبنان مستعدة لذلك، وهي مجهزة سياسياً وعسكرياً وأمنياً لخوض هذه المواجهة.
الواضح، أن على العدو أن يختار القرار الذي يناسبه بصورة جليّة. أما الاتكال على تفسيرات وتقديرات ليست في محلها فسيقود حتماً الى مواجهة، ليس بإمكان أحد تخيّل حجمها وطبيعتها ومداها ومساحاتها. وهذا ما لا تقدر إسرائيل على ادعاء معرفته.