جورج كاستانيدا
لا شك في أن زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لكوبا تعد لحظة تاريخية، إذ أنها المرة الأولي منذ 88 عاما التي تطأ فيها قدما رئيس أميركي مازال في منصبه أرض الجزيرة. بيد أن أي مبالغات في هذا الصدد هي أقل شأنا مقارنة بالنظرة البرغماتية للدلالات العملية -بالنسبة لكل من الولايات المتحدة وكوبا- لهذا التحرك الذي يعزز إرث أوباما.
والبرغماتية في حقيقة الأمر، هي من بين أهم محددات أسلوب أوباما في التعامل مع كوبا. فهو يدرك فشل سياسة فرض الحظر التجاري على كوبا المعمول بها منذ 1960 في دفع البلاد لتعزيز حماية حقوق الإنسان، وفشلها الأكبر في حمل كوبا على التحرك صوب الديمقراطية. وبالتالي قرر أوباما على نحو برغماتي ـوربما حتى على نحو ساخر نوعا ما- التوقف عن محاولة إجبار قادة كوبا على تغيير نظامهم السياسي. ففي نهاية المطاف، وحتى إذا أسست الولايات المتحدة لانفتاح سياسي في كوبا أو حتى أرست قدرا يسيرا من احترام الحكومة لحقوق الإنسان، كشرط مسبق لتطبيع العلاقات الدبلوماسية، سيظل كل من البلدين أمام مأزق.
ولكن، وبينما قد يستهدف أوباما تحسين إرثه كرئيس بالدفع صوب تطبيع غير مشروط أو ما يسمى “اشتباكا”، فهو يتغاضى عن وضع ضمانات لأي تغيير عملي في كوبا. وبالتالي فإن “الاشتباك” هو في نهاية المطاف ليس إلا رطانة لغوية.
وفي الواقع، إذا كان من المفترض أن يفضي الاشتباك إلى تغيير سياسي، فالأرجح أن اشتباك الولايات المتحدة مع كوبا محكوم عليه بالفشل، فلم تفض التجارة والاستثمار في فيتنام طوال الأعوام العقدين المنصرمين إلى أي شيء في نهاية المطاف في ما يتعلق بإرساء انفتاح ديمقراطي، ولا أدت 30 سنة من التجارة الضخمة مع الصين والاستثمار فيها إلى اقتراب قيادات هذا البلد بأي قدر كان من الديمقراطية، وإذا كان الاشتباك يستوجب تجاهل القضايا المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى حد ما على الأقل، تظل هذه السياسة حكيمة، إن لم تكن شديدة الإيثار.
ورغم أن حضور لعبة البيسبول في هافانا برفقة رئيس كوبا راؤول كاسترو -كما هو مقرر ضمن برنامج زيارة أوباما- ليس عنصرا ضروريا من عناصر هذه السياسة، يرى الصحافي أندريه أوبنهايمر العكس، ويعتبر ذلك خطأ فادحا يرقى إلى صفعة على وجه ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها نظام كاسترو.
والتوقف عن فرض الحظر التجاري -تلك السياسة الفاشلة- أمر منطقي، ولكنه لا يستدعي “اللعب النزيه” مع ديكتاتور. فلا يعلم أحد أبدا ما إذا اعتمد طغاة آخرون على تلك السابقة المؤسفة لرئيس أميركي، ولاسيما رئيس محط إعجاب كبير من القاصي والداني في أرجاء العالم كافة.
ولا يعني هذا أن أوباما قد تخلى عن المعارضة الكوبية الصغيرة المحاصرة. ففي الواقع من المقرر أن يلتقي بالمنشقين الكوبيين، الأمر الذي سينظر إليه نظام كاسترو باستياء، ثم سيتطرق أيضا لقضايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في خطابه التلفزيوني المباشر للشعب الكوبي. وسيتناول ممثلو وسائل الإعلام الذين سيحيطون بأوباما أثناء زيارته هذه القضايا العصيبة في تقاريرهم ـ بما في ذلك للأسف، تلك النصيحة السيئة المتعلقة بلعبة البيسبول- حتى لو اشتعلوا حماسة وابتذالا من الموسيقي الكوبية ونشروا تحقيقاتهم بجانب لقطات سخيفة لسيارات عتيقة في شوارع كوبا.
وبينما لا يمكن للولايات المتحدة تجاهل مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في تعاملها مع كوبا -ويبدو أنها لن تفعل- فهناك فارق بين المعايير الديمقراطية والسياسات الاقتصادية، وفي حقيقة الأمر، يكمن التحدي الأكبر الماثل أمام محاولات الولايات المتحدة تطبيع العلاقات مع كوبا في الجبهة الاقتصادية.
في الاشهر الـ15 المنصرمة منذ عودة العلاقات وتراكض المنقبين إلى الجزيرة بحثا عن فرص للاستثمار، لم يحدث شيء ذو قيمة في ما يتعلق بالتجارة والسياحة والمشاريع الجديدة. وبالفعل كما تشير تقارير مجلة “نيويورك تايمز”، لم يوقع المسؤولون الأميركيون والكوبيون إلا على بضع صفقات تجارية، وتلك حقيقة “تهدد بتقويض الزخم الذي أثارته عملية بناء العلاقات”.
ويكمن جانب من جوانب المشكلة في الحظر التجاري الذي امتد طويلا، ورغم نمو التأييد داخل المجتمعين الكوبي والأميركي، وداخل الكونغرس الأميركي لرفع الحظر، فمن غير المرجح أن يحدث هذا قبل مغادرة أوباما لمنصبه.
ورغم إلغاء بعض القيود على السفر والمعاملات المالية، تظل العقبات بضخامتها قائمة على طريق التغيير الحقيقي للوضع الاقتصادي للجزيرة. فحتى بدون الحظر، ستظل كوبا تتخلف بسبب بنيتها التحتية المتهالكة وقوانين العمل المتشددة والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي والقوى العاملة المتعلمة ولكن غير الماهرة وغير المعتادة على الممارسات الغربية في أماكن العمل، فضلا عن الافتقار للعقود والأدوات القانونية لفرض هذه الممارسات. كل هذا يجعل من المستبعد للغاية أن يفضي “اشتباك” الولايات المتحدة إلى أي تأثير يُذكر على الكوبيين العاديين.
وبالنسبة لقيادات كوبا، يعد غياب فوائد اقتصادية ملموسة خيبة أمل هائلة. ومع الخراب الاقتصادي الذي تعاني منه فنزويلا والناجم جزئيا عن انهيار أسعار النفط، لم يعد شعبها راغبا في دعم الاشتراكية الكوبية بنحو عدة مليارات من الدولارات سنويا، بل أكثر من ذلك لفظوا فعليا الجناح اليساري من قياداتهم. واستشرف كاسترو إرهاصات هذا التحول حتى قبل أن تدركه فنزويلا، وبدأ يتطلع إلى الولايات المتحدة لتؤدي هذه المهمة، بيد أن الولايات المتحدة لم تفعل، وعلى الأرجح لن تفعل، على الأقل لبعض الوقت.
وبدون تأثير اقتصادي قوي، لن يؤدي فتح أميركا لكوبا ولا حتى إلى قدر يسير من الدعم للتحرر السياسي للجزيرة، وهو أمر لا يمثل أهمية كبيرة بالنسبة لإرث أوباما، ولكنه يثير تساؤلات حول مدى أهمية إرث الزعيم الفرد في رسم سياسة تجاه بلد محبوب ولكنه مستنزف ولا يزال قمعيا.