كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
على جاري ما خبرته الاستحقاقات الرئاسية المتعاقبة لعقود، وهو انتخاب الرئيس بمرور الشهر الاول فقط من المهلة الدستورية، أعطي مجلس النواب في 23 نيسان 2014، وهو الشهر الأول المنقضي منها، الالتئام للانتخاب فاكتفى بدورة اولى جسّت نبض الكتل النيابية وإرفضت الجلسة على لعبة مفتوحة دُعيت تعطيل النصاب.
لم يبقَ من أثر تلك الجلسة سوى النائب هنري حلو: لم يعد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع مرشح قوى 14 آذار وذهبت الأصوات الـ48 التي حازها هباء، مثلما راحت الأصوات الـ 52 التي أعطيت للورقة البيضاء هباء. أصبح الرئيس ميشال عون المرشح المعلن وجهاً لوجه مع المرشح المعلن الآخر النائب سليمان فرنجيه. تغيّر المرشحون واختفى بعضهم، وانقلبت التحالفات رأساً على عقب، الا ان مشكلة النصاب القانوني لا تزال نفسها. تأكد أيضاً أن ما يحتاج اليه الاستحقاق ليس المرشح، بل النصاب فحسب، وأن المطلوب بعد إنقضاء كل هذا الوقت من الشغور ليس وجود مرشحين، بل إنتخاب رئيس.
في الجلسة الـ36 في 2 آذار حضر 73 نائباً. وهو الرقم الأعلى للحضور منذ ثانية جلسات الانتخاب في 30 نيسان 2014 عندما حضر 74 نائباً. بعد ذاك راح الرقم يتدهور ويهبط الى أن وصل الى 35 نائباً فقط في الجلسة 27 في 12 آب 2015. على ان حضور 73 نائباً، بما يقل عن ثلثي البرلمان بـ13 نائباً، بما فيه الزخم الذي اثاره في الظاهر حضور الرئيس سعد الحريري للمرة الأولى هذا الإستحقاق، لم يكن ليوحي بسذاجة أن انتخاب الرئيس بات وشيكاً، أو أن إحضار النواب الـ13 سيكون من السهولة بمكان، والإعتقاد من ثمّ أن المشكلة تكمن في نصاب عددي ليس إلا، يتاح توافره دونما الحاجة الى حضور نواب حزب الله وعون.
غالى البعض في الإجتهاد والظن أن في الامكان فرض إنتخاب الرئيس على غرار حالتين فريدتين وحيدتين في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية، فُرض فيهما إنقاذ الانتخاب بالقوة في غياب فريق سياسي أساسي: الأولى في 8 أيار 1976 مع انتخاب الرئيس الياس سركيس وسط مقاطعة أفرقاء رئيسيين تظللوا كمال جنبلاط وريمون إده، والثانية في 23 آب 1982 مع انتخاب الرئيس بشير الجميّل وسط مقاطعة افرقاء اساسيين أيضاً تظللوا الرئيس صائب سلام. كلا الإستحقاقين أجريا في ظلال سوريا وإسرائيل، إلا أن البرلمان إكتمل نصاب ثلثيه وإنتخب الرئيسان. لم يؤتَ في إستحقاق 1976 على الخوض في صحة نصاب الثلثين، بل نوقشت للمرة الثانية بعد عام 1958 (مع الرئيس فؤاد شهاب) قانونية إنتخاب موظف رئيساً قبل أن يكون استقال قبل ستة أشهر. لم يؤتَ أيضاً على التشكيك في نصاب الثلثين عام 1982، إلا أن الجميّل إتهم بالتعرّض لنواب بعد إطلاق نار على النائب حسن الرفاعي بغية خفض رقم الثلثين لا تجاوزه في أي حال أو التحدّث عن نصاب نصف +1 حتى.
في إستحقاقي 1976 و1982، النموذجين الماثلين لفرض إنتخاب الرئيس بالقوة، كان أفرقاء النزاع محليين وإقليميين يخوضون معركة النصاب القانوني الكفيل بترئيس المرشح المعلن الأقوى حظاً، على غرار استحقاق هذه الأيام. إلا أن الحال لم تكن كذلك في انتخابات 1970 ــــ وكانت معركة مرشح لا معركة نصاب كون أياً من الكتل لم يخطر في باله التغيّب أو المقاطعة بل المواجهة ــــ ولا في انتخابات 1964 عندما إجتمع ما يزيد على الثلثين على مرشح واحد، ولا قبل ذلك في إنتخابات 1958 و1952. كذلك الحال في انتخابات 1989 لم تنشأ مع الرئيسين رينه معوض والياس هراوي أزمة نصاب أو أزمة مرشح، وكان الإستحقاقان أقرب الى فرض رئيس بالقوة تحميه تسوية وطنية بمظلة دولية.
أوجب فرض إنتخاب الرئيس بالقوة إنتقال البلاد من حقبة من أخرى كان الإستحقاق الرئاسي أحد أدواتها: مهّد إنتخاب سركيس لدخول الجيش السوري، وساهم الإجتياح الإسرائيلي في وصول الجميّل. لم تكن ثمة تسوية سياسية ينجزها الأفرقاء المحليون، بل خيارات وتوازنات جديدة تفرض عليهم من بينها إمرار إنتخاب رئيسهم.
بعدما غفا الكلام على النصف+1 طويلاً أتى مَن أيقظه فجأة بعد جلسة 2 آذار، رغم تسليم الأفرقاء جميعاً بأن الخوض فيه أقرب إلى حرث في مياه: فرض إنتخاب رئيس بقوة النصاب العادي.
أوحى حضور 73 نائباً بأن المتأخرين عن الجلسة يُعدّون على أصابع اليدين، كأن الرئيس نبيه بري يذهب الى جلسة إنتخاب يقاطعها حزب الله، أو النائب وليد جنبلاط يفعل الأمر نفسه، مع أن كتلتيهما حضرتا مواعيد الجلسات الـ36 المنصرمة بلا استثناء، أو أن حزب القوات اللبنانية يقع في فخ توفير نصاب كي يُنتخب المرشح الذي كبّد رئيسه مغامرة ثقيلة الوطأة هي ترشيح عون كي يمنع إنتخاب فرنجيه، أو أن في الإمكان فرض الإنتخاب ليس على المرشح الأبرز صاحب الكتلة المسيحية الأكبر فحسب، بل على حليفه حزب الله الذي يمسك بأقفال الإستحقاق.
غداة جلسة 2 آذار سارع الرئيس ميشال سليمان الى المناداة بانتخاب الرئيس بالنصف+1، هو المرشح التوافقي عامي 2007 و2008 ستة أشهر في ظلّ الشغور رافضاً إنتخابه خارج نصاب الثلثين. لحق به الرئيس فؤاد السنيورة أحد أبرز المتمسكين بالثلثين كذلك في إستحقاق 2008. في الجلسة الأخيرة لطاولة الحوار استنجد السنيورة ببري لإيجاد مخرج للشغور على طريقة إحتكامه عام 2008 الى المادة 74. حجة الرئيس السابق أن التمسك بالثلثين يجعل الإنتخاب مستعصياً في ظل الإنقسام الحالي، وطرَحَ النصف+1 خياراً بات مقبولاً.
كان رد بري تأكيد تمسكه بالثلثين، مع إستعداده لتطبيق المادة 74 مجدّداً ــــ على وفرة ما أحاط بها من جدل حينذاك ــــ إذا توافرت أسباب الإحتكام إليها محلياً ودولياً في سياق تسوية مشابهة.
يدافع بري أمام زواره عن حجة المادة 74 التي قدم الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة حججها القانونية بأن ربط تعديل الدستور لانتخاب موظف بالمهلة الدستورية، على أن إنقضاءها دونما إنتخابه يحرّر المجلس من ذلك القيد ويدعوه إلى الإنعقاد فوراً والشروع في إنتخاب الرئيس بلا أي شروط مسبقة. رغم ذريعة تسوية الدوحة التي إختبأت وراء المادة 74، طاردت لعنتها سليمان طيلة ولايته ولا تزال.
كانت تلك المرة الثانية في تاريخ الإستحقاقات تطبّق المادة 74. الأولى على أثر إستقالة الرئيس بشارة الخوري في 18 أيلول 1952، فدعي المجلس إلى إنتخاب خلفه بعد خمسة أيام.
مغزى موقف برّي أن العودة إلى المادة 74 ممكنة مقدار ما التخلي عن الثلثين مستحيل.