Site icon IMLebanon

بريطانيا.. هل ينتصر الاقتصاد؟

brexit-flag
لويس حبيقة

هنالك قلق دولي واضح من التقلبات الكبيرة في الأسواق، كما من المؤشرات الاقتصادية والمالية. هنالك خوف كبير من العولمة بالرغم من النتائج الإيجابية المحققة على صعيدي النمو والتنمية. توسعت فجوات الدخل والثروة بين الطبقات الشعبية نتيجة عدم تطور السياسات الاقتصادية، بل ربما أحياناً نتيجة تطبيق السياسات الخاطئة. توسع الفجوات يحدث قلقاً ضمن الشعوب الفقيرة في كل الدول ويدفع إلى السلطة متطرفين يستغلون الأوضاع المعيشية الدقيقة للفقراء أينما كانوا. الأمل الكبير يكمن في وعي المجتمع العالمي لهذه المشكلات وبالتالي في معالجتها بأسرع وقت.
تضاعف حجم الاقتصاد الدولي 6 مرات منذ نصف قرن، لكن الأزمات المالية والنقدية ما زالت تتكرر كل 10 سنوات تقريباً. في الستينات، كان حجم الاقتصاد الأمريكي 33% من الاقتصاد العالمي، أما في سنة 2014، فبلغ 22%. توسع حجم الدول النامية والناشئة من 16% من الناتج العالمي في سنة 2000 إلى 32% في سنة 2014، وهو تقدم كبير يشير إلى الدور الذي تلعبه المجموعة اليوم في الاقتصاد الدولي. توسع حجم الدول النامية والناشئة وانخفاض الحجم النسبي للدول الصناعية هما جيدان للعالم. ما هي الخصائص الأساسية لهذا التحول الكبير؟
أولاً: التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا الذي انتشر عالمياً أياً كان مصدره. نخص تحديداً تطور قطاعي الاتصالات والنقل، من ناحيتي الفعالية والسرعة والسعر.
ثانياً: زيادة العلاقات التجارية والمالية بين الدول والقارات، ما ساهم في نشر النمو ونقل السلع والخدمات والأموال بسرعة وبالتالي الاستثمارات.
ثالثاً: التطور السكاني الكبير حيث خف النمو لكن العمر المرتقب ارتفع. وبلغ النمو السكاني السنوي معدل 2,1% في فترة 1965 1994 لينخفض إلى 1,2% في السنوات العشر الأخيرة. وارتفع العمر المرتقب بين الفترتين المذكورتين من 59 سنة إلى 70 سنة بفضل تطور الغذاء والصحة والوعي الاجتماعي والعائلي. وانخفضت نسبة الإنجاب من 32 من الألف في فترة 1965 1974 إلى 20 من الألف اليوم. وانخفضت أيضاً نسبة الوفيات من 12 من الألف إلى 8 من الألف. وتغيرت الهيكلية السكانية ما انعكس إيجاباً على الإنتاج، أي تحقق نمو قوي سنوي في نصف القرن الماضي.
رابعاً: رافق هذا التطور الاقتصادي مشكلة في المناخ ما فرض على العالم توقيع اتفاقيات لوقف أو أقله تخفيف تسميم الهواء والماء والطبيعة. الاتفاق الأهم حصل في باريس في آخر السنة الماضية، والتحدي الأكبر يكمن في حسن التنفيذ.
خامساً: لا ننسى دور الثقافة في الاقتصاد. فالتطور الاجتماعي لا يحصل من مصادر مادية فقط، بل له جذور إنسانية وسياسية، منها السلم والديمقراطية والشعور بالسعادة التي تنعكس إيجاباً على أسواق العمل والإنتاجية.
بني الاقتصاد الحديث على 4 ركائز ميزت الاقتصاد الغربي عن كل ما سبق. احترام الملكية الفردية، احترام العقود وفرض تنفيذها من قبل السلطات الرسمية العامة، تأمين فعالية وشفافية الأسواق كي تعكس الأسعار جودة ونوعية وكمية السلع والخدمات، ورابعاً وجود حكومات تسعى لتأمين مصلحة وحقوق المواطن، خاصة الطبقات الشعبية والشركات الصغيرة. هنالك ضرورة لوجود مؤسسات عامة فاعلة، إذ من دونها تصادر حقوق المواطن فيصبح لا صوت له ولا قدرة له على التعبير والاعتراض. هنالك خصائص جديدة مهمة تحصل اليوم في الاقتصاد العالمي وستفرض تغييرات كبيرة في العلاقات الدولية وهي:
أولاً: تعقد مشكلة اللاجئين الأوضاع العالمية، وهنالك دهشة من سوء التحضير للمواجهة أو للمعالجة. أوروبا التي تبنى بدقة وعناية وذكاء منذ سنة 1957 تواجه أكبر تحد لها اليوم. هنالك رجوع موجع ومضر إلى الوراء. مهما بلغ عدد النازحين، فهم لا يشكلون نسباً مهمة من عدد سكان أوروبا. لماذا على أوروبا أن تتحمل وحدها هذه الأعداد؟ ماذا ينقص آسيا وأستراليا وغيرهما، وهي جميعها بحاجة إلى يد عاملة شابة ونشطة، وهذا هو حال أكثرية النازحين؟ أسقطت أوروبا في الواقع اتفاقية «شنغين» وهي تعود إلى الحدود الأصلية مدعومة بالإقفال الحديدي منعاً لوصول النازحين.ثانياً: تشكل قروض صندوق النقد الدولي مؤشراً كبيراً وواضحاً على تعثر الاقتصادات المقترضة. في الخمسينات، كانت أكثرية الدول المقترضة صناعية، ثم أصبحت جميعها نامية وناشئة، بدءا من الثمانينات وحتى سنة 2007. مع أزمة «الركود الكبير»، عادت الدول الصناعية إلى الاقتراض وهي تأخذ اليوم نحو 66% من المجموع أي عودة إلى الخمسينات.
أولاً: يخشى المستثمرون العالميون من المخاطر الموجودة حالياً في الأسواق. انخفاض كبير في سعر النفط منذ منتصف سنة 2014، تقلب متواصل في البورصات غير مرتكز على المؤشرات الاقتصادية العامة، تقلب كبير في السياسات المالية كما في سياسات المصارف المركزية. القلق يعثر الاستثمارات ويفرض التروي والانتظار. الخروج البريطاني يرفع القلق.
ثانياً: تشير المعلومات إلى أن الشركات العالمية الكبيرة ستخفف استثماراتها في بريطانيا إذا ما اختارت الانفصال عن القارة، وهذا سيضعف النمو الاقتصادي البريطاني نحو 4% في السنوات الثلاث المقبلة، أي تكلفة كبيرة وسريعة ومقلقة. لن يكون هنالك إقفال للفروع، بل ستتأثر حكماً الاستثمارات الجديدة التي ستختار القارة بدلاً من الجزيرة. لن تتمكن بريطانيا من الاستمرار في الاستفادة من السوق الأوروبية الكبيرة كما يحصل اليوم، وسيحدث نوع من العزلة الواقعية الطبيعية التي تتحقق بعد أي عملية طلاق أو انفصال.
ثالثاً: اعتمدت أوروبا على السوق المالية البريطانية لتأمين التبادل المالي في الأدوات والأسهم والسندات. وتخصصت لندن بهذا الأمر ولم تتطور البورصات الأوروبية كما كان يمكن لها، اعتباراً واحتراماً للسوق اللندنية. إذا خرجت بريطانيا، لا بد من تحقيق بديل في القارة والأرجحية تتوجه نحو إيرلندا بفضل اللغة والضرائب المنخفضة. ستخسر لندن أهم ما يميزها.
رابعاً: إذا اختارت بريطانيا الانفصال ستقسم هي بدورها، إذ ستعود اسكوتلاندا لتطالب بالخروج من بريطانيا، وسينتصر هذا الخيار، وبالتالي ننتقل من بريطانيا العظمى إلى انجلترا العادية، والفارق كبير وواضح. قوة الجنيه الاسترليني ستتأثر حكما سلباً، وربما تخرج من نادي النقد الصعب الدولي بعد عقود من التميز والتمايز.
قادت بريطانيا العالم في توجهه نحو الحريات والمؤسسات والاتفاقيات الدولية الجيدة. وحصلت جميعها بتوقيع بريطاني، أو أقله بمشاركة بريطانية فاعلة ونشطة. نحزن كثيراً عندما نرى بريطانيا راغبة، أو تفكر في إمكانية ترك أوروبا. ما هي الدروس التي تعطيها للمجتمع الاقتصادي الدولي؟ دروس الانعزال والانفصال والمقاطعة. الاستفتاء البريطاني في يونيو/‏حزيران المقبل ليس استفتاء للموضوع البريطاني فقط، إنما ردة فعل على ما حصل دولياً خلال نصف القرن الماضي. سينعكس الخيار البريطاني على العديد من الدول والمناطق والقارات إيجاباً أو سلباً، تبعاً للنتيجة. كلنا بريطانيون اليوم، وسنفرح إذا صوت البريطانيون مع العقل والمنطق والمصلحة.