Site icon IMLebanon

هذه رحلة القمح … بلا رقابة

Wheat-Leb
مارسيل محمد

يعتمد لبنان على القمح بنسبة أساسية لكن إنتاجه لا يكفي حاجته، إذ يختلف الإنتاج اللبناني بين سنة وأخرى تبعاً لعوامل الطقس والتربة ونوعية الحبوب المزروعة، إلا أنَّ معدل إنتاجه لا يتعدى الـ150 ألف طن سنوياً.

في المقابل، فإن السوق المحلية تحتاج إلى نحو 400 ألف طن سنوياً، تقل أو ترتفع بنسبة 10%، وفق ما تظهره أرقام وزارة الإقتصاد والتجارة.

ومع وجود فرق كبير بين الحاجة والإنتاج، تصبح سوق القمح عرضة للتلاعب وسيطرة أصحاب المصالح، بدءاً بأصحاب القرار السياسي وصولاً إلى صغار الموزعين الذين يُعتبرون من المستهلكين بصورة عامة، مروراً بأصحاب المطاحن والأفران القادرين على التحكم بأسعار الطحين والخبز.

وقبل وصول القمح إلى السوق ودخوله في لعبة الأسعار والاحتكارات، تتوزع صلاحيات وزارات الزراعة والإقتصاد والصحة على مسألة استيراد القمح.

تبدأ رحلة الكشف على القمح المستورد مع وزارة الزراعة التي تفحصه في البواخر. وبعد التأكد من سلامته، تعطي الوزارة شهادتها ويُنقل المخزون إلى الإهراءات. وعندما يغادر المخزون الحرم الجمركي، تبدأ صلاحية وزارة الإقتصاد بالتوازي مع صلاحية وزارة الصحة، في مراقبة المخزون و”انتشاره” في السوق. وتلفت مصادر “المدن” النظر إلى أنه قانوناً لا تَعارض في الصلاحيات بين الوزارات. وهذا ما يبينه تحديد القانون مهمات كل وزارة.

وخطورة ملف القمح تتفاقم في ظل عدم وجود بيئة صحية تحفظ القمح، المنتج محلياً أو المستورد. والخطر الأكبر يكون من المستورد لأن آليات الفحص غائبة مع غياب مختبر مركزي يعمل بشفافية. فالقمح المستورد بشكل أساسي من روسيا يستفيد من غياب الرقابة الفعلية. ما يسمح للتجار باستيراد أنواع رديئة. وعند وصول الكميات المستوردة تُخزّن في إهراءات غير صحية، وهو ما ظهر بوضوح في الآونة الأخيرة مع إرتفاع وتيرة حملة مكافحة الفساد الغذائي، التي أظهرت افتقار بعض غرف التخزين في المطار ومرفأ بيروت وفي أكثر من مخزن، إلى أدنى شروط السلامة العامة، حيث كانت الجرذان بين المواد الغذائية وبين حبوب القمح بشكل أساسي، فضلا عن العفن الذي لحق ببعض كميات القمح المخزن.

هذه الوقائع تتزايد مع إطلاق يد التجار في استيراد هذه السلعة دون حصر الاستيراد بالدولة، وإن كان البعض يتذرع بالإقتصاد الحر، إلا أنَّ القمح “يستحق أن يكون محمياً بشكل كبير، لأنه السلعة التي يستهلكها اللبنانيون من كل الفئات الاجتماعية، وخصوصاً الفقراء الذين لا يملكون إلا هذه السلعة”، على حد تعبير أحد المخلّصين الجمركيين في مرفأ بيروت، والذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، “لأن السوق فيها الكثير من الزملاء الذين يستوردون القمح وغيره، والحديث في هذا الموضوع فيه حساسية كبيرة، لأنه لا يتوقف عند القمح بل يصل إلى الطحين والخبز”. ويرى “المخلّص” أنه “من مصلحتنا تشجيع الاستيراد، لكن هناك حداً فاصلاً يجب أن تتوقف عنده المصلحة الخاصة إذا كانت لقمة العيش هي الضحية”.

يذكر هذا الكلام بنتائج الخلاف المالي بين الدولة وأصحاب المطاحن، نظراً لوجود مبالغ عالقة بين الطرفين، وتحديداً عدم سداد الدولة مبالغ دفعتها المطاحن لاستيراد القمح، إلى جانب “تحفّظ” المطاحن على ملف الديون المتراكمة على الدولة. وهذا الأمر هدد مراراً برفع سعر ربطة الخبز أو خفض وزنها، وهو ما ظهر بوضوح في العام 2012، وفي العام 2014، وصولاً إلى رفع وزن الربطة في العام الحالي. فالإجراء الأخير وإن كان إيجابياً بالاسم بالنسبة إلى المستهلك، إلا أنه يندرج في إطار تحكم المستوردين في لقمة العيش وغياب دعم الدولة ورقابتها.

ومع تأكيد وجود مادة مسرطنة في كميات القمح المستورد من روسيا، إلا أنَّ وزير الإقتصاد آلان حكيم طمأن المواطنين بأنَّ “السلة الغذائية وخاصة المتعلقة بالطحين بألف خير”. لكن من يضمن ذلك بطريقة وأرقام علمية؟ فالمواد المسرطنة لا يمكن الاستسهال فيها وحصرها في إطار عمليات روتينية تنتهي بإتفاق أو إختلاف، أو حتى بدعاية لوزارة او وزير، ورأى حكيم، أنَّ ما جرى “لم يكن سوى حملة دعائية للوزير ابو فاعور”، لأن فحوصات أخرى أظهرت خلو القمح من المواد المسرطنة.

الرحلة التي تنتهي برغيف الخبز واستهلاكه يومياً، باتت مهددة بالسرطان، ومهددة أكثر بتضارب الآراء بين الوزارات المعنية وبإدارة الموضوع بحسب المصالح البعيدة كل البعد عن مصلحة المستهلك الذي يأكل ما ينزل في السوق، بغض النظر عن سلامته. فحتى حملة مكافحة الفساد الغذائي لم تؤثر بشكل فعلي في حركة المواطنين في السوق، لأن المواطن بدأ يتململ من التقارير المتعارضة التي تصدر عن الوزارات، وفقد الثقة بمحاسبة الدولة كبار المستفيدين من بيع مواد فاسدة. لذلك يستهلك دون النظر إلى التقارير الرسمية، بل يستهلك بحسب ثقته بالمحال التي تشتري منها فقط.