Site icon IMLebanon

بيوت الضيافة تنعش سياحة القرى

duma
تعود القرى اللبنانية الى الواجهة السياحية بعد عقود من أولى المحاولات الجادة لرسم هوية وطنية متميزة للوطن الصغير، وصناعة فولكلور جامع يرتكز على القرية، أكان من خلال المسرحيات الرحبانية أم الأعمال الأدبية التي جمعت قصص الضيعة والعادات والتقاليد. في “بيوت الضيافة” عودة نوستالجية الى أيام البساطة التي لا تزال هنا

رضا صوايا

أدرك أنيس فريحة الخطر المحدق بالتراث القروي اللبناني عندما قام بتسجيل حياة القرية اللبنانية في سلسلة من الكتب بهدف حفظ الموروثات الشعبية والتقاليد من الذوبان أمام هجمة التمدن.

من خلال “اسمع يا رضا”، أبرز كتبه، أراد فريحة أن يوصل الرسالة الى وطن بأسره، قبل أن نقدّّر، بعد نصف قرن تقريباً، أهمية القرية اللبنانية ودورها المحوري في تشجيع السياحة الداخلية والخارجية. الناس تبحث عن البساطة، وعن تجربة تعود بها الى زمن لم يعد موجوداً إلا في المحكيات والمسرحيات والقصص، وهذه مكامن قوة “بيوت الضيافة”. بيوت تعبق بالتاريخ في الحاضر.
ضمن استراتيجية السياحة الريفية عام 2014 بهدف الترويج للأرياف، أطلقت وزارة السياحة بالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية الموقع الإلكتروني “ضيافة” Diyafa.org الذي يضم نحو 30 بيتاً و181 غرفة منتشرة على مساحة الأراضي اللبنانية من الشمال الى الجنوب.
تميل “بيوت الضيافة “الى أن تكون نوعاً من ملتقى اجتماعي يجمع أشخاصاً قادمين من بيئات مختلفة يلتقون في جوّ دافئ وراحة منزلية. وتوضح المسؤولة عن مشروع “ضيافة”، ميسون قربان، أن بيت الضيافة هو “الذي يحتوي على أقل من 10 غرف، وله طابع تراثي قديم، وفيه يتشارك الضيوف مع أهل البيت حياتهم الاجتماعية ويتعرّفون الى المأكولات والعادات والتقاليد القروية. وهذا الاختلاط هو من أبرز ما يميّز هذه البيوت عن الفنادق”.

سعر الليلة الواحدة في هذه البيوت قد يبدأ بعشرة دولارات فقط، ويصل في بعضها الى ما بين 25 و35 دولاراً، وصولاً الى 200 دولار، وفقاً للتسهيلات والخدمات التي تقدمها. وبحسب قربان، “تحديد الاسعار يعود لكل بيت وفق ما يراه مناسباً. ولكن، لأن الكثير من البيوت موجودة في قرية واحدة أو في محيط جغرافي واحد، اتفق المشرفون عليها على تسعيرة موحدة حفاظاً على المنافسة الشريفة”، علماً بأنه لا يشترط النوم في هذه البيوت، بل يمكن السائح أن يقصدها لتناول الفطور أو الغداء، بعد حجز مسبق.

قيمة مضافة

تلفت رئيسة دائرة الشباب والهيئات المحلية في وزارة السياحة بيترا عبيد الى أن “السياحة الريفية ليست مفهوماً جديداً في لبنان. فهي انطلقت منذ أكثر من 20 عاماً بمبادرات ومشاريع ناجحة ساهمت في تطوير عروض سياحية بديلة، غير تقليدية، مثل السياحة البيئية والمحميات، سياحة النبيذ، دروب المشي، بيوت الضيافة، مواقع التخييم، المنتجات الغذائية وأسواقها، السياحة الزراعية، الانشطة الرياضية والمغامرة…”. ورأت أن “السياحة الريفية قيمة مضافة للبنان تميزه عن البلدان المجاورة. وأهمية بيوت الضيافة تكمن في أنها تخلق فرص عمل وتسمح للسكان المحليين بزيادة دخلهم وتنويع مصادره، وتساهم في تمكين المجتمعات المحلية وتحسين التكامل الاجتماعي، فتتيح للنساء، مثلاً، فرصة أكبر للاندماج في الحياة الاجتماعية والاقتصادية من خلال توفير الطعام واستضافة الزائرين في البيوت، وحتى بيع منتجاتهن المحلية”.
وتلعب هذه البيوت دوراً متزايداً في الاقتصادات المحلية للأرياف، وتساهم في تثبيت أهالي القرى في بلداتهم. لكنها، بحسب قربان، “لم تصل بعد الى مرحلة تشكيل مصدر تمويل وحيد يغني أصحابها عن أي عمل آخر، إذ إن كثيرين منهم يديرون هذه البيوت ويعملون في وظائف أخرى”.

شروط ومعايير

ليس كل بيت قروي “بيت ضيافة”، بالمعنى العلمي والتقني للكلمة. لكن الكثير من البيوت يمكن أن تندرج في هذا الإطار في حال رغب أصحابها في تحويلها الى بيوت ضيافة إذا لبّت بعض الشروط والمعايير. وتوضح قربان أن “الكثير من بيوت الضيافة قديمة جداً واستندت إلى مبادرات فردية.

ولكن، منذ حوالى 10 سنوات، بدأ العمل جدياً على تنظيم هذا القطاع، سواء من خلال جمعية أنيرا التي اشتغلت على إنشاء بيوت ضيافة في المناطق الريفية، أو تطوير البيوت الموجودة”. وتضيف أن عدد البيوت المسجلة في وزارة السياحة يقارب 70 بيتاً، فيما يقدر العدد الإجمالي للبيوت بحوالى 100. “وكان معظم هذه البيوت قائماً من دون معايير ومواصفات دقيقة، فقمنا منذ سنتين بوضع المواصفات والمعايير التي ينبغي احترامها كي يعتبر البيت بيت ضيافة، سواء من ناحية الشكل الخارجي الذي يجب أن يكون تراثياً، إضافة الى الهندسة الداخلية، وعدد غرف النوم والحمامات”. وتضيف: “اشتغلنا أيضاً على سلامة الغذاء والمأكولات التقليدية، وعملت Food Heritage Foundation في الجامعة الأميركية مع كثير من بيوت الضيافة هذه لتقديم لائحة طعام تقليدية متميزة تنفرد بها القرى، مغايرة لتلك التي يمكن أن نجدها في أي مطعم”.
وفي السياق نفسه، تقول مديرة المشاريع في “جمعية درب الجبل”، زينب جانبيه، إن “بعض ما نقوم به مع بيوت الضيافة هو العمل على إعداد لوائح طعام تقليدية موسمية. ولأن القيمة المضافة لهذه البيوت تكمن في طابعها التقليدي والتراثي ونقلها صورة عن الواقع المناطقي والمجتمعي في بيئة معينة، نركّز على مأكولات تشتهر بها المنطقة وتصبغها بطابع معين، وكله بحسب الموسم وبما هو متوافر في أرض المنطقة وخيراتها”.
وحرصاً على نقل صورة دقيقة الى الضيوف عن البيئة التي تجسدها هذه البيوت والثقافة التي تنقلها، بشكل يتماشى والمعايير السياحية الدقيقة، يخضع أصحابها لدورات تدريبية، فيما تخضع البيوت لمعاينة دقيقة لاقتراح التعديلات المناسبة. وتوضح المسؤولة عن مشروع “ضيافة” أنه “خلال سنة كاملة، أجريت ست دورات تدريبية مجانية مقسمة بين العملي والنظري. أربع دورات جرت مع كل بيت على حدة، ودورتان مشتركتان بين كل البيوت بهدف تبادل الخبرات في ما بينها. كذلك زار الخبراء كل بيت وأطلعوا أصحابه على المواصفات الأساسية التي يجب أن يتضمنها. وبعد الشرح ننتقل الى المرحلة العملية حيث نعاين المنزل ونطلب إجراء تعديلات معينة ليتلاءم مع مواصفات بيت الضيافة. والتعديلات تكون عادة على نفقة أصحاب البيوت، وأغلبها يكون لا يتطلب أكلافاً مالية كبيرة”.

المشي في الريف

“درب الجبل” هو أول درب مشي طويل في لبنان يصل عكار بمرجعيون، و”جمعية درب الجبل” ليست مؤسسة سياحية تنظم رحلات سياحية، بل تهدف الى المحافظة على هذا الدرب وتطويره وصيانته من خلال التشحيل المستمر، ووضع العلامات، ووضع الخرائط الخاصة به، والتواصل مع البلديات لتحصينه ومنع جرفه أو التعرض له.

وللجمعية دور مهم في تعزيز السياحة الريفية وتفعيل البيئة التقليدية. وتوضح جانبيه “أننا نشتغل مع بيوت الضيافة والمرشدين السياحيين المحليين الذين نقوم دورياً بتدريبهم على كيفية استقبال السياح والتعاطي معهم في كل منطقة بهدف تحسين أدائهم السياحي”. وتضيف: “رغم أننا لسنا مؤسسة سياحية، إلا أننا ننظم نشاطين على مدار العام بهدف الإضاءة على الدرب. في نيسان نمشي الدرب بأكمله ولمدة شهر، وهو يتألف من 27 مرحلة، وكل 10 أيام نأخذ يوم راحة. ونختار لكل نشاط موضوعاً أو عنواناً خاصاً. السنة الماضية، مثلاً، احتضنا موضوع الإرث الأثري، وقبلها أضأنا على أهمية ينابيع المياه، وفي السنة التي سبقت كان العنوان التوعية على الطيور المهاجرة. هذه السنة عنوان النشاط هو الإرث الغذائي في لبنان، لنقل ثقافة المنطقة من خلال المأكولات التي تشكل عاملاً مهماً جداً في الهوية المجتمعية لكل منطقة. وخلال الأيام الثلاثين ننام في بيوت الضيافة. وحيث لا يوجد بيوت ضيافة نستخدم التسهيلات المتوافرة، سواء أكانت فنادق أم أديرة أم محميات…”. وتتابع: “إيماناً منا بالسياحة المسؤولة، وحفاظاً على الدرب من الأعداد الكبيرة من الناس الذين سيسلكونه، وكي لا نضغط على المجتمعات المحلية بالوفود إليها دفعة واحدة، قررنا هذه السنة أن ننقسم الى قسمين، قسم ينطلق من عندقت في الشمال، والآخر ينطلق من مرجعيون، ويكون الالتقاء في كفرذبيان. أما النشاط الثاني فيجري عادة في تشرين الأول، ونمشي خلاله جزءاً من الدرب، ويمتد لعشرة أيام، تحت العنوان أو الموضوع نفسه”.
زوار بيوت الضيافة يحلون ضيوفاً على البيوت من الناحية الجسدية. أما من حيث التجربة فهم ضيوف لرحلة عابرة للزمن تنقلهم الى ماض عابق بالتقاليد والعادات والذكريات في بيئة ما زالت محافظة على لبنان… لبنان الذي لا يزال يجاهد للصمود أمام الهجمة العمرانية والصفقات العقارية والفظائع الهندسية، على أمل أن يسمع الجميع كما سمع ذات يوم… رضا!