«كلنا في خدمة الاقتصاد» هو عنوان المؤتمر الذي عقدته أمس شركة «كونفكس إنترناشيونال» بالتعاون مع مصرف لبنان لتحذر من «المخاطر» المحدقة بالاقتصاد. ارتأى المشاركون في المؤتمر أنّ الحل الوحيد لإنقاذ البلد هو سحب الخدمات من يد الدولة وتسليمها للقطاع الخاص، فضلاً عن زيادة رهن الناس للمصارف وأرباحها، إذ أعلن حاكم مصرف لبنان أن خدمة ديون الأسر للمصارف تبلغ نسبة 44% من دخل الأسر!
إيفا الشوفي
يعبّر عنوان مؤتمر منتدى إدارة المال والأعمال “كلنا في خدمة الاقتصاد”، الذي نظمته شركة “كونفكس إنترناشيونال” بالتعاون مع مصرف لبنان، أمس، بصراحة عمّا يدور في خلد المصارف وأصحاب الرساميل، وحتّى ممثلي السلطتين التشريعية (النائب ياسين جابر) والتنفيذية (الوزير نبيل دو فريج).
يريد هؤلاء أن يكون الناس “كلهم” في خدمة الاقتصاد، أي الأرباح والريوع التي تستأثر بها قلّة قليلة. علماً بأن الواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي يثبت أن الناس أصلاً مجنّدون في خدمة هذا الاقتصاد بدلاً من أن يكون الاقتصاد في خدمة الناس. فحصّة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 25%، مقابل 75% تعود للأرباح والريوع، كذلك يملك أقل من 1% من اللبنانيين أكثر من نصف الثروة، فيما يتوزع الـ99% من اللبنانيين النصف الآخر، ويتزاحمون عليه ليؤمنوا القدرة على البقاء. لا تنتهي الأرقام هنا، فقد أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في الجلسة الافتتاحية، أنّ “خدمة الدين لدى العائلة اللبنانية تساوي 44% من مدخولها، وهي موزعة على أساس 29% لخدمة الدين السكني و14% لأغراض أخرى”. تمرّ هذه الأرقام من دون أي اهتمام في المؤتمر، إذ إنّ أصحاب الرساميل والمصرفيين انشغلوا بالتحذير من تراجع أرباحهم. ما قاله سلامة هو أنّ الأسر هي أصلاً في خدمة أرباح المصارف (أي النموذج الاقتصادي القائم)، ليس فقط بوصفها شريكة بنسبة 44% بمدخول كل أسرة فحسب! بل أيضاً من خلال استحواذها على أكثر من 41% من إيرادات الدولة، إذ بلغت خدمة الدين العام (وهي المصدر الرئيس لأرباح المصارف) نحو 6722 مليار ليرة في عام 2015 في مقابل إيرادات ضريبية وغير ضريبة بلغت 16400 مليار ليرة. هذا عدا الفوائد التي تجنيها المصارف من ديون مصرف لبنان نتيجة اكتتاباتها بشهادات الإيداع.
ولكن رئيس شؤون الأبحاث الاقتصادية في بنك البحر المتوسط، مازن سويد، كانت له وجهة نظر أخرى في مداخلة ألقاها في الجلسة الأولى، التي ناقشت “تلازم معالجة الهدر مع زيادة المداخيل”، فهو لا يعلم “مدى قدرة القطاع المصرفي على تحمّل وحده وزر كل ما يحصل في الاقتصاد”. تحدّث سويد عن “ارتفاع ودائع القطاع الخاص عام 2015 في المصارف لتبلغ 7 مليارات دولار، وهي أقل نسبة نمو في ودائع القطاع الخاص منذ 20 سنة. كذلك إن عجز المالية العامة بلغ 4 مليارات دولار، وتسليف المصارف للقطاع الخاص بلغ 3 مليارات، ما يعني أن ما دخل من ودائع (7 مليارات دولار) خرجت هي نفسها”. يجيب سويد، محتدّاً، عن سؤال عن أرباح بعض المصارف التي تجاوزت مليون دولار باليوم، بالقول: “عند الحديث عن ربحية المصارف لا نتحدث بالأرقام، بل بالنسبة، ومصارفنا تحقق معدل ربحية يعد الأدنى في العالم العربي”.
يتحدّث سويد عن مصارفنا نفسها، التي تشارك كل أسرة لبنانية بنسبة 44% من مدخولها وتحوز 41% من إيرادات الدولة وآلاف المليارات من الليرات على حساب خسائر مصرف لبنان. حديث سويد لم يتطابق حتى مع ما قاله رئيس جمعية المصارف جوزيف طربيه، إذ “رغم المعطيات غير المواتية، سجَّل قطاعنا المصرفي نمواً في الودائع قدره 5 في المئة عام 2015، ويعني هذا المعدل ازدياداً في حجم الودائع بما مقداره 7,3 مليارات دولار، وهو أكثر من كافٍ لتغطية الاحتياجات التمويلية للاقتصاد الوطني بقطاعيه العام والخاص، والتي لم تتعدّ في مجملها ما يقارب 3,1 مليارات دولار خلال عام 2015. أما رساميلنا وأموالنا الخاصة، فقد قاربت مستوى تاريخياً بلغ 16,7 مليار دولار. إذ أُضيفت 937 مليون دولار عام 2015، وتكتسب هذه الأموال الخاصة أهمية كبرى لجهة تعزيز ثقة المودع المحلّي والأجنبي بالقطاع المصرفي اللبناني”. ويشير طربيه إلى أن “هذه الإضافة إلى موارد المصارف تتّصف بكونها موارد طويلة الأجل يمكن استعمالها في عمليات الإقراض المتوسط والطويل، كذلك فإنها تقوّي المراكز المالية للمصارف بحيث من المقدّر أن يكون معدل الملاءة في القطاع قد فاق 14 في المئة بحسب معايير (بازل – 3) في نهاية عام 2015”. يضيف: “من جهة أخرى، إن إجمالي قروضنا للقطاع الخاص، المقيم وغير المقيم، من دون احتساب قروض مصارف الأعمال والاستثمار، قارب 54,2 مليار دولار في نهاية عام 2015، أي بزيادة قدرها 3,3 مليارات دولار ونسبتها 6,5 في المئة مقارنة مع نهاية عام 2014. ومع تراجع الاستثمارات الخاصة المحلية الوافدة، يصبح التسليف المصرفي السبب الأول والأهم للنمو الاقتصادي في لبنان، ولو بنسبة ضئيلة (1 في المئة). ولولا هذا النشاط التسليفي لكان الناتج المحلي الإجمالي للبلد قد سجل معدل نمو سلبياً بحدود 1,5 في المئة!”. رغم كل هذا “تحقق مصارفنا أدنى معدل ربحية في العالم العربي” بنظر سويد.
كيف نكون في خدمة الاقتصاد؟ يقول وزير الدولة لشؤون الإصلاح الإداري نبيل دو فريج، ممثلاً رئيس مجلس الوزراء تمام سلام، إنه “حبذا لو كنا كلنا في خدمة الاقتصاد”، ليكيل اتهامات للدولة الفاشلة والفاسدة والقطاع العام الذي تُنهب أمواله وكأنه لا يمثّل هذه الدولة! النائب ياسين جابر يعيب عدم إصدار موازنة منذ 10 سنوات، مذكراً بأنه عضو بلجنة المال والموازنة. يتحدث عن عجز الخزينة وفساد ملفات الكهرباء والنفايات والإنترنت، مثله مثل الوزير دو فريج كأنه ليس جزءاً من هذه الدولة. لكن جابر يُخبر المشاركين في المؤتمر أنّ “المصارف تملك ودائع، إلا أنها لن تتمكن من إقراض الدولة أكثر لأنها حملت ديوناً سيادية كثيرة، والطريق الوحيد اليوم هو عبر إقامة مشاريع استثمارية مشتركة مع الدولة”. يعني هذا أنّ جابر يعترف بأنّ الشراكة مع القطاع العام هي استدانة خفيّة، هي عملية إخفاء لحجم المديونية العامة، ويطالب في الوقت نفسه بإقرار قانون الشراكة. إلّا أنّ جابر كان ألطف في تعابيره من دو فريج، الذي أعلن أنّ “معالجة هذه المعضلة لن تكون إلا بسحب جزء كبير من هذه الخدمات من يد القطاع العام وجعل القطاع الخاص وحده يعمل على تقديمها وتطويرها، وأن تتولى الدولة في المقابل دورها كهيئة ناظمة لعمل هذه القطاعات وأن تفعّل دورها الرقابي والتشريعي، وأن تركّز في الأولوية على الرعاية الاجتماعية لمختلف شرائح الشعب”. وزير الدولة لشؤون الإصلاح الإداري يرى أن الدولة هي “هيئة ناظمة”، وسلّموا كل شيء للقطاع الخاص.
جميع المشاركين في الجلستين استفاضوا في الحديث عن الدولة الفاسدة والقطاع العام الفاشل مقابل قطاع خاص قوي. نجح المتحدثون في تغييب مصادر أرباح القطاع الخاص عن النقاش وتعزيز “بروباغندا” الدولة الفاشلة. ماذا يريد هؤلاء أفضل من خدمة كهذه لاقتصادهم؟ فهم جنّدوا الناس في خدمتهم وركّزوا الثروات لديهم… وما زالوا يريدون المزيد!