كشفت صحيفة “لوموند” الفرنسية عن حيازتها وثائق حصرية، تؤكد أن الاستخبارات الاميركية تجاهلت معلومات عن تنظيم “داعش” نقلها لها جواسيس “الجيش السوري الحر” منذ عام 2013.
بعد بضعة أسابيع قضاها في تركيا، تمكن موفد صحيفة “لوموند” من جمع وثائق وشهادات غير مسبوقة، تؤكد امرين مهمين وهما ان الاستخبارات الاميركية تابعت منذ منتصف عام 2013 تنامي وصعود “تنظيم الدولة” خطوة بخطوة، بفضل اتّصالاتها مع عناصر المعارضة السورية المعتدلة، أمّا الأمر الثاني فهو أنّ واشنطن لم تستغل هذه المعلومات حتى بعد بدء الضربات الجوية ضدّ “داعش” في أيلول 2014.
أمّا مصدر هذه التأكيدات المزدوجة فهي اعترافات حصرية حصلت عليها “لوموند” من جاسوس تمكّن “الجيش السوري الحر” من تجنيده لجمع معلومات من داخل “داعش”. لقد نقل هذا الجاسوس وعلى مدى عامين تقارير مفصلة ومعلومات جمعها عن طريق مخبريه عن التنظيم للإستخبارات الأميركية.
وتضمّنت هذه التقارير بطاقات وصور وأرقام هواتف ومواقع محدّدة عن طريق تقنية الـ“جي بي إس”، ويقول هذا الجاسوس “لقد أرسلنا للأميركيين معلومات عن “داعش” منذ كان يضمّ 20 عنصرًا والى أن وصل تعداد عناصره الى 20 الف مقاتل، وحين سألناهم عن مصير هذه المعلومات، كانوا يراوغون بالقول إنّها بين يدي صناع القرار”.
وتمكنت “لوموند” من الإطلاع على الكثير من هذه الوثائق، ومن بينها وثائق تبيّن بوضوح مواقع مكاتب ونقاط تفتيش الإرهابيين في الرقة، ويرى المختص في الحركات المتطرفة السورية شارل ليستر إنّ الولايات المتحدة فوتت فرصة كان يمكن أن تريح المجموعة الدولية، من تنظيم “داعش”. ويضيف “نحن نقلل من أهمية المعلومات الاستخباراتية التي يمكن أن يجمعها السوريون عن تنظيم الدولة”.
بدأت مسيرة “م” مع عالم التجسس في نيسان 2013، حين انضمّ الى المجلس العسكري الأعلى، وكانت هذه الهيئة قد شكّلت قبل أربعة شهور من أجل تنسيق العمليات التي تنفذها فرق الجيش السوري الحر وتنظيم المساعدات المالية، وقد شارك “م” في البداية في مهمة التحقيق التي قادتها الامم المتحدة في سوريا بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية. ثمّ شارك في وساطات تهدف إلى تحرير أجانب وقعوا رهائن في يد الارهابيين، لكن بسرعة اهتمّ بتنظيم “داعش” الذي اقترب منه في سراقب بالقرب من إدلب. “لقد كان المسؤول يدعى أبو براء الجزائري وكان بلجيكيًا ينحدر من أصول جزائرية ويدخن الحشيش باستمرار ويتحدّث عن إقامة دولة الخلافة التي تتوسع مثل السرطان بينما كان الجميع يعتقد بأنّه يمزح، لكن مشواره أثار اهتمامي، حيث قاتل في العراق وافغانستان ويتحدّث الروسية والفرنسية والانكليزية علاوة على دراسته للهندسة، وحين فتح رجاله محكمة وشرعوا في محاكمة الناس اكتشفنا بأنّ الحماقات التي كان يتحدّث عنها ابو براء جدّية”.
تحذير من تنامي الإسلاميين
بالإتفاق مع مسؤوليه، قرّر “م” إعداد تقارير عن هؤلاء المتطفلين، حيث كان التنظيم حينها يحمل إسم “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، كما حذّر السفير الأميركي روبرت فورد خلال لقاء جمع بينهما في تركيا، من تحوّل السوريين جميعهم الى ملتحين في ظرف ثلاثة شهور، إن استمرّ تدفق الإرهابيين الاجانب، حيث كانوا يصلون بالمئات يوميًا عبر الحدود السورية ـ التركية.
تمّ ابتعاث “م” للخارج من أجل التدريب، ولدى عودته جند 30 رجلاً يثق بهم في المدن التي سقطت في قبضة “داعش” كالباب وتل أبيض والمنبج والرقة وحتى يتمكن من تمويل شبكته طلب “م” 30 الف دولار شهريًا من الولايات المتحدة، لكنّه لم يتلقّ سوى 10 آلاف دولار، وأمّا اللقاءت التي كانت تجمعه بجنوده فكانت تتمّ في أضنة وغازي عنتاب وأنقرة. وقد تمكّن أحد العناصر من التسلل الى مكتب الشؤون المالية للتنظيم في المنبج غير بعيد عن الحدود التركية. ويوضح تقرير أعدّ بناء على معلوماته، أنّ النائب البعثي السوري رضوان حبيب حوّل لشقيقه علي، أمير تنظيم الدولة في مدينة مسكنة اموالا على 10 دفعات بين تشرين الثاني 2013 ونيسان 2014 من بينها تحويل بقيمة 14 مليون ليرة سورية، أي ما يعادل 67 ألف يورو. وعن ذلك يقول “م”: “في البداية كان رضوان حبيب يدعم شقيقه الذي كان مسؤولا بسيطًا في المعارضة ضدّ قبيلة منافسة، لكن حين انضمّ علي الى “داعش”، استمرّت الاموال بالتدفق”.
ولا يسترق مخبرو الجيش السوري الحرّ السمع من وراء الابواب المغلقة فقط، فهم يعرفون عناصر “داعش” في الميدان. ويقول “م” لقد أرسلت للغربيين الذين أعرفهم، صور معسكر تدريب الإرهابيين الجانب في شمال اللاذقية مع الموقع، لكن لم يصلني أي ردّ، وقد نجح المخبرون الذين يعملون لمصلحتي في الحصول على أرقام هواتف مسؤولين في “داعش” والارقام المتسلسلة لاجهزتهم، لكن لا أحد اهتم بذلك.
لا أولوية للأميركيين
يقول “م” انه كان في صيف 2014 بصدد التحضير لمخطط سري، قد يقلب موازين القوى في شمال سوريا ويرتكز على تنفيذ عمليات ضد مواقع التنظيم من الشمال إلى الجنوب على محور أعزاز حلب، واطلعت لوموند على وثائق ارسلت للاميركيين بشأن التحضير للهجوم الذي وافقت عدة مجموعات على المشاركة فيه مثل جيش المجاهدين الذي يتمركز في حلب.
كان كل شيء مدروسًا ساعة بساعة وشارعا بشارع “كنا نعرف عدد مسلحي “داعش” في كل حي من إحياء المدينة ومواقعهم، وقمنا بتحديد مواقع للقناصين والمتفجرات، كما كنا نعرف اين ينام الامير المحلي ولون سيارته وحتى ماركتها، لقد كنا مستعدين من الناحية الاستراتيجية والتكتيكية”.
لكن الأميركيين ترددوا وطلبوا توضيحات أخرى، فمرّ الوقت من دون أن تنفذ هذه الخطة، وتبيّن فيما بعد أن المستعجل بالنسبة للبيت الابيض هو تحرير كوباني. ويقول “م” “لو نفذنا مخطّطنا بالكامل لكانوا اعتبرونا اليوم شركاء في محاربة الارهاب، ولكن يبدو أن هناك من لا يرغب في أن نحتل هذه المكانة، غير أنّ مستشار حركة حزم التي تدعمها الولايات المتحدة الاميركية، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالاستخبارات الاميركية لا يؤمن بنظرية المؤامرة. ويضيف “لا يرغب اوباما في التدخل ويعتقد ان على دول الشرق الاوسط ان تحل مشاكلها، أمّا شغله الشاغل فهو التحدث مع الجميع، وأمّا بالنسبة للمعارضة فليس عليها أن تتذمر لأنّها تلقت الكثير من الاسلحة، لكنها ارتكبت الكثير من الأخطاء”.
ومن تركيا عبر “م” عن اسفه لتعاون الولايات المتحدة مع الاكراد ووحدات حماية الشعب الكردي ما مكنهم من لعب الدور الذي يحلمون به، واما عمله مع الاميركان فاقتصر على اعداد تقارير عن الرقة معقل “داعش” في سوريا، ويتضمن تقريرا سلمه لـ“سي اي ايه” كل الهياكل المحلية للتنظيم من الأمير الى غاية نقاط التفتيش، بالاضافة الى صفحات كاملة عن مواقعهم بواسطة تقنية الـ“جي بي إس”، ويضيف “لقد سلمتهم هذا التقرير منذ عام ونصف، لكن الرقة لا تزال عاصمة داعش”.
تدمر المهجورة
ويشعر سوري آخر بالغضب نفسه، حيث يقول هذا السوري الذي كان ضابطا سابقا في استخبارات نظام الاسد، وأصبح اليوم تاجرًا في المملكة المتحدة ووسيطا سريا للجيش السوري الحر “كنت في الاسكندرون حين اتصل بي عناصر يعملون لمصلحتي من مدينة السخنة غير بعيد عن تدمر لإبلاغي بأنّ سيارات تنظيم الدولة الاسلامية تتجه نحو تدمر، ما دفعني لإخطار الـ“سي آي إيه” و”البنتاغون”. والرد الذي وصلني هو انهم رأوهم ورأوا مواكب السيارات وهي تغادر، غير أن طيارهم رصد اطفالا في شاحنة. ولكن ماذا عن بقية المركبات”؟
هذا المصدر لم يزود لوموند بوثائق عما جاء على لسانه، لكن المستشار السابق لحركة حزم يقول “في المعارضة كان الجميع يعرف على الاقل قبل عشرة ايام بأن “داعش” يستعد لمهاجمة تدمر. إنها أرض مستوية وصحراوية وسهلة للقصف، لماذا لم يفعل الاميركيون شيئا ؟هذا لا يزال لغزا”.
وتحليل شارل ليستر لا يزال أيضًا من دون تفسير، فهو يقول ان المعارضة تشك منذ فترة طويلة في اهداف الولايات المتحدة في سوريا، ويبدو أن عدم الثقة يخيم أيضًا على الطرف الثاني، رغم أنّ “داعش” لا يمكن أبدًا قهره من دون مساعدة السوريين على الارض. وبعبارة اخرى من دون المعارضة السنية والعربية.
وكانت فرقة أخرى تابعة للجيش السوري الحرّ قد هزمتها جبهة النصرة في 13 آذار الجاري في معرة النعمان والقرى المجاورة وهكذا بعد انهزام الجبهة الثورية السورية وحركة حزم، ها هي مجموعة معتدلة أخرى يهزمها “داعش” لتتواصل بذلك سلسلة انكسارات المعارضة في سوريا.