كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:
فكرة اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصر الله من المخابرات الإسرائيلية، قائمة، خصوصاً منذ العام 2000 الذي شهد نجاحَ المقاومة الإسلامية في تحرير منطقة الشريط الحدودي من الاحتلال الإسرائيلي.
صحيح أنّ الانسحاب جاء تطبيقاً لنظرية “الفصل” مع غزة وشريط لبنان الحدودي وإحراج الوجود السوري، ألخ، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ اسرائيل خرجت من لبنان عام 2000، وهي لم تكمل بعد تصفية حسابها الامني مع “حزب الله” وخصوصاً مع نصر الله، وذلك تطبيقاً لنظرية “الثأر” السائدة كتقليد راسخ داخل المؤسسة الامنية الاسرائيلية.
تجدر الاشارة الى أنّ نظرية الثأر داخل التفكير الامني الاسرائيلي ليست فقط “فكرة قبَلية” بل هي أيضاً موروث تفكيري أمني حرفي داخل الموساد والشاباك، وهدفُها الأساس تركُ رسالة لجميع “أعداء إسرائيل” الحاليين والمستقبليّين بأنّ من يهزّ استقرارَها وينال من “جنودها” سيَدفع عاجلاً أم آجلاً ثمناً باهظاً.
وتندرج هذه النظرية في خدمة هدف إبقاء إسرائيل مهابة الجانب وإبقاء “أعدائها” الحاليّين والمتوقع ولادتهم لاحقاً مسكونين بفكرة حذرِهم من تجاوز الخطوط الحمر معها لأنّ ذلك سيكلّفهم غالياً.
والواقع أنّ فكرةَ اغتيال نصرالله داخل التفكير الاستخباراتي الإسرائيلي موجودة على أساس أنّها من موجبات تطبيق نظرية “الثأر”، ولكنّها حاليّاً وبَعد تهديد نصرالله النووي لإسرائيل – بحسب التوصيف الإعلامي الإسرائيلي المعتمد – يتمّ في كواليس الخارجية الإسرائيلية حسب معلومات ديبلوماسية إضافة بُعد دعائي لها يتمثّل في أنّه يجب نَيل عقابه كمعادٍ للسامية.
كيف تمظهرَت فكرة اغتيال نصر الله في إسرائيل طوال العقدين الماضيين وصولاً بنسختها الراهنة الجديدة؟
المرّة الأولى التي تمّ فيها إخراج هدف اغتيال نصر الله من أدراج الموسّاد، ووضعه على طاولة اتّخاذ القرار السياسي في إسرائيل للنظر في إمكانية تنفيذه، كانت أثناء أخذِ إسرائيل قرارَ الانسحاب من جانب واحد من الشريط المحتل اللبناني، أي عشيّة العام 2000.
آنذاك قلبَ المستوى الأمني والسياسي الرفيع المستوى في إسرائيل فكرةً تفيد أنّه يتوجّب على تل أبيب الحصول على ثمنٍ معنوي ومادّي يساوي ثمنَ خروجها من لبنان، خصوصاً أنّها تنسحب من دون اتفاق يتضمّن تنازلات سياسية لها؛ وعليه يجب الحصول على ثمن كبير في الميدان يسبق انسحابَها ومن ثمّ يواكبه ويُتوِّجه، وذلك لتحقيق تعادل بين “مشهد الخروج” من ناحية و”الثمن المتحقّق له” من ناحية ثانية، ولو أقلّه من منظار معنوي.
وكان نصر الله هو المقصود بهذا الثمن، لأنّ “اصطياده” سيصبح هو “الحدث الأبرز” و”الإنجاز الأمني الباهر”، بدلاً من أن يكون الخروج الإسرائيلي المتّسم بطابع الهروب من الشريط الجنوبي اللبناني هو الأبرز، وأيضاً لأنّ قيام إسرائيل بتركِ لبنان ليس فيه نصرالله هو أمرٌ مختلف عن تركِ لبنان مع وجود نصرالله فيه منتصراً؛ وأيضاً لأنّ “حزب الله” من دون نصر الله، وحتى لو كان منتصراً ومحرّراً للأرض، سيصبح أشبَه بولد يتيم لفترةٍ غير قصيرة، بينما انسحاب إسرائيل مع وجود نصرالله وحزبه المنتصرين، سيقدّم صورةً إلى “حزب الله” بوصفه نموذجاً ناجحاً لحركات مقاومة أخرى.
وختم هذا النقاش الإسرائيلي آنذاك على تفضيل تأجيل فتح ملف اغتيال نصرالله حاليّاً، وإعادته الى أدراج الموساد، في انتظار نشوء لحظة أخرى مؤاتية لإعادة طرحِه على طاولة اتّخاذ القرارات الإسرائيلية الكبرى.
الأسباب التي استدعت عدمَ اتّخاذ قرار اغتيال نصرالله كانت كثيرةً في مقابل الأسباب الآنفة التي تشجّع على اغتياله، وأبرزُها أنّ الاغتيال سيخفّف في المحافل الدولية من إيجابيات الخطوة الاسرائيلية التي تبدو سِلمية والمراد توظيفُها من جملة أمور، في إحراج الوجود العسكري السوري في لبنان.
أضِف أنّها ستستتبع ردّاً من “حزب الله” ضد المستوطنات، وهذا الأمر سيعقّد سلاسة تقبّل المجتمع الاسرائيلي لخطوة الانسحاب من جنوب لبنان، وسيَجعله يطالب بالتوغّل أكثر داخل لبنان وليس الخروج منه.
سبب ثالث وراء تأجيل الاغتيال وهو تقدير اسرائيلي يرى أنّ “الحزب” مع قيادة مركزية قوية وحتى لو كان الرديكالي نصرالله يظلّ أفضلُ من “حزب الله” من دون عنوان قيادي رسمي قوي وواضح يمكن اللجوء إليه عبر طرق شتّى للضغط عليه لبناء تفاهمٍ غيرِ مباشر معه يتمّ في إطاره احترام قواعد تهدئة غير رسمية وغير معلنة.
سبب رابع ومفاده أنّ ضعف “حزب الله” سيحتّم في ظلّ ضعف الدولة اللبنانية أن يملأ الفلسطينيون فراغ مقاومة الحزب في الجنوب، وهذا يؤدّي إلى عودة الوضع في جنوب لبنان الى مرحلة ما قبل غزو العام 1982، وهو أمر لا ترغبه إسرائيل مطلقاً لأنه يعيد إحياء جذوة المقاومة الفلسطينية في الشَتات ويؤسّس لتجربة منظمة تحرير فلسطينية جديدة في الخارج، قد تكون هذه المرة إسلامية وأخطر وأكثر رايدكالية.
تجدر الإشارة الى أنّ معظم الاسباب الآنفة التي اتّخذتها تل أبيب في الاعتبار لتجنّب اغتيال نصرالله عشية العام 2000 لا تزال قائمة في الظرف الحالي، ولكنّ هناك مستجدّاً يمكن أن يقلب حاليّاً كلّ معادلة التحسّب الاسرائيلي السابق، وقوامُه قيام نصرالله بتوجيه إنذار نووي لإسرائيل، بغَضّ النظر عن حقيقة أنّ تنفيذه سيتمّ عبر إطلاق صواريخ تقليدية على مخزونات إسرائيل النووية وليس عبر صواريخ غير تقليدية؛ فالنتيجة واحدة لجهة أنّها ستؤدي إلى إشعال حريق نووي داخل إسرائيل.
وترى مصادر غربية أنّ تهديد نصرالله ستأخذه الخارجية الإسرائيلية خلال الفترة المنظورة كوثيقة دعائية تَستخدمها في المحافل الدولية في اتّجاهين: الأوّل لإظهار أنّ اسرائيل لا تزال أمام خطر وجودي؛ والثاني أنّ الإسلام السياسي الذي يُهدّد إسرائيل يشمل أيضاً “حزب الله” وليس فقط “داعش” وأخواتها.
وينتظر في هذا الإطار أن تعود السياسة الخارجية الإسرائيلية انطلاقاً من تهديدات نصرالله الأخيرة لها، إلى استخدام مصطلحات خمسينات وستّينات القرن الماضي ذاتها التي كانت تُبرّر بها أسبابَ تعنُّتها ضد أيّ تسوية مع الفلسطينيين، ومفادُها أنّ العرب لا يزالون يريدون “رميَها في البحر” ويسعون لتدميرها وليس فقط لهزيمتها.
طبعاً داخل البيئة النخبوية السياسية والعسكرية الاسرائيلية، يوجد قناعة بأنّ “خطاب نصر الله النووي” – كما يسمّونه- هو دفاعيّ وليس هجومياً وغايتُه ردع إسرائيل عن التفكير ببَدء حرب جديدة وإفهامُها أنّ تطبيق نظرية رئيس الأركان غادي بازنكوب عن “استراتيجية الضاحية” التي توصي بتدمير لبنان فوق رأس “حزب الله”، ستجرّ الأخير إلى الرد بتدمير شامل وتجاوز الخطوط الحمر. ومع ذلك ينظر هؤلاء لتهديدات نصرالله بوصفها نقلةً استراتيجية في الصراع العقائدي بينه وبين إسرائيل، وهو خطير لنواحي عدة:
أوّلها لأنه يرسِل إشارة إلى تنظيمات متشدّدة إسلامية بأنّها يمكنها تجاوز الخطوط الحمر في حربها العقائدية الوجودية مع إسرائيل؛ وثانيها لأنّ نصرالله تجاوَز في كلامه التلميحَ إلى التصريح، وهذا يقوده للصِدام مع بنيان ثقافي ضخم نجحَت الحركة الصهيونية في بنائه داخل أوروبا والغرب، والمتمثّل في إشعارهم بأنّ نيلَ المغفرة عن جريمتهم بمعاداة اللاسامية له طريق واحد في هذا العصر وهو تقديس الحقّ الوجودي لليهود في إسرائيل ومنع أخذها إلى محرقة جديدة.
نصرالله في نظر أوساط غربية تجاوَز هذا المحظور الثقافي والسياسي الغربي المقدّس والذي يشكّل خلفية التعهّد الدولي الغربي لإسرائيل بحماية كيانها الوجودي، وأعلنَ أنّه سيهزّه بقوّة ويدمّره في حال غامرَت إسرائيل بضرب لبنان وفق تطبيقات “استراتيجية الضاحية”.
ثمّة خشية مِن أن تضغط بيئات التطرّف الاسرائيلي داخل حكومة بنيامين نتنياهو التي تقوم بالأساس على عَصب ديني عقائدي، في اتجاه ضرورة أن تعاقب اسرائيل نصر الله شخصياً على تهديداته النووية والوجودية لها، ليكون “عبرةً للّاساميّين”، ولمنع تكرار خروج زعيم إسلامي آخر في المستقبل ليردّد تهديداته نفسَها.
تجدر الإشارة الى أنّ إسرائيل لا تعتني بالتبريرات الأخلاقية لهدفها الدائم – المؤجّل اغتيال نصرالله، بدليل أنّه في المرحلة الماضية كان يتمّ عرض فكرة اغتياله في إطار حِرفي أمني بحت، واستراتيجي سياسي عام. أمّا حالياً فهي تتّجه إلى تقديم مقابلته مع “الميادين” كوثيقة اتّهام له بـ”اللاسامية الإسلامية الجديدة” التي جزاؤها الاغتيال.
في مرّتين سابقتَين حاولت إسرائيل اغتيالَ نصرالله؛ مرّةً خلال عدوانها على لبنان عام 2006. وولدت الفكرة حينها برأس أحد مساعدي أولمرت الامنيين الذي قال: أثناء حرب العام 1982 اقترح آرييل شارون تدميرَ مبنى في بيروت على رأس ياسر عرفات، وهكذا ترحل منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان على نحو يُشبه خروجَ قبيلة وليس منظّمة تحرّر، والأمر نفسه يمكن تكراره مع نصرالله عبر تدمير مبنى تظنّ الموسّاد أنّه يقيم فيه، على رأسه، وبذا تكون الحرب انتهَت بنصر إسرائيلي استراتيجي ضد الحزب.
المرّة الثانية التي طُرِح فيها اغتيال نصر الله على طاولة اتخاذ القرار الإسرائيلي كانت خلال بدايات وصول نتنياهو للمرّة الأولى الى الحكم في اسرائيل.
كان معه إيهود باراك للدفاع وغازي اشكنازي لرئاسة الأركان وكلاهما خبيران عسكريان استراتيجيان. قالت الفكرة آنذاك إنّه يجب توريط إيران في ارتكاب خطأ عسكري كبير، يمكن لإسرائيل أن تأخذه كمبرّر لشنّ ضربةٍ تدميرية لمفاعلها النووي.
ولكنّ السؤال الذي شكّل محورَ هذا البحث الذي شاركَ فيه شمعون بيريس أيضاً، هو كيف يمكن استفزاز إيران لجعلِها ترتكب خطأ مهاجمة إسرائيل، بحيث تستغلّه اسرائيل لتدمّر مفاعلها النووي ومن دون أن يُغضبَ ذلك الرئيسَ باراك اوباما الرافض تدخّلَ إسرائيل عسكرياً في هذا الملف.
والتصوّر الذي توصّلَ إليه رباعي نتنياهو – باراك – اشكنازي وبيريس هو أنّ أكثر عمل تنفّذه إسرائيل ويؤدي الى استفزاز طهران هو اغتيال نصرالله.
وقدّروا أنّ مثلَ هذا العمل ستَعتبره طهران، وخصوصاً أجواء الحرس الثوري فيها، أنّه تحَدٍّ موجّه إليها وستجد صعوبةً في السكوت عنه، ما يَجعلها تقدِم على ردّ فِعل مباشر أو شِبه مباشر مؤذٍ لإسرائيل التي ستردّ بدورها عليه بتنفيذ خطة تدمير مفاعل إيران النووي؛ وفي اليوم التالي على ذلك سيتحقّق هدف إسرائيل الاستراتيجي وهو توريط “الناتو” بدخول المعركة ضد إيران إلى جانبها بوصفها الطرفَ المعتدى عليها.
مرّةً أخرى، طوَت آنذاك إسرائيل خطة استفزاز إيران عبر اغتيال نصرالله، مع ملاحظة أنّ اللحظة الراهنة تحمل مواصفات سياسية من وجهة نظر إسرائيل مشابهة لفترة بداية حكم نتنياهو. اليوم تسعى إسرائيل أيضاً لافتعال أحداث كبرى تعطّل تطبيقَ الاتّفاق النووي الإيراني، وذلك بالحماس نفسِه الذي كانت تسعى فيه سابقاً لتعطيل توجّه واشنطن لإبرامه.
أضِف أنّ قامة نصرالله من منظار إسرائيل باتت تشكّل قامةً اقليمية، وعليه فإنّ ضربَه سيكون له تداعيات بنيوية على “حزب الله” وعلى محور الممانعة الذي تقوده إيران والذي هو في حالة اشتباك مع دول عربية. هل تغامر اسرائيل، أم أنّها مرّة أخرى ستخضع للعقلانية التي تقول إنّ اغتيال نصرالله لن يكون نزهةً أمنية استخباراتية، تماماً كما أنّ حربَها على لبنان لم يعُد نزهة عسكرية.