يشتهر “حزب الله” اللبناني بهيمنته الكاملة تقريباً على الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية بيروت، التي تحتضن أغلب وأهم مؤسسات الحزب السياسية والعسكرية والاجتماعية والإعلامية، ولكن الضاحية الجنوبية، ليست المدينة الوحيدة التي يُطبق عليها الحزب الذي نجح على امتداد 30 عاماً تقريباً في التمدد إلى عدد كبير من المدن الأخرى، وصولاً إلى ضاحيته المغمورة عربياً، والأمريكية الجنوبية الشهيرة في كامل القارة اللاتينية، مدينة ثويداد ديل ايست، أو مدينة الشرق على المثلث الحدودي الخطير بين باراغواي والبرازيل والأرجتين.
ويتميز المثلث الحدودي الأميركي الجنوبي، إلى جانب شلالاته المتدفقة في المنطقة الواقعة على ضفاف المحيط الهادئ، والتي تطغى عليها الغابات والأحراش، ما جعلها أشهر المحميات الطبيعية في أمريكا الجنوبية، بعزلته النسبية عن باقي المدن الكبرى في البرازيل وفي باراغواي والأرجنتين، وبحضور جالية عربية هامة، خاصة من اللبنانيين أو من أصل لبناني، الذين تدفقوا على المنطقة منذ بداية الحرب الأهلية في بيروت سنة 1975.
ملاذ مثالي
ومنذ بداية الثمانينيات ظهرت المنطقة وخاصة مدينة “ثويداد ديل إيست” الباراغوانية، أو “مدينة الشرق” على رادارات أجهزة المخابرات والأجهزة السرية الدولية المختلفة، بعد تزايد المؤشرات على تحولها ملاذاً لعصابات الجريمة المنظمة من مختلف انحاء العالم، قبل أن يلحق بها الإرهاب والتطرف، بعد سنوات قليلة، ممثلة في الإخوان المسلمين، و”حزب الله” اللبناني، والقاعدة، وغيرها من الحركات التي وجدت في المنطقة الممتدة على مساحات شاسعة، بين ثلاثة بلدان لا تشتهر أجهزتها الأمنية بالكفاءة العالية من جهة، أو بقدرتها على التصدي ورغبتها أحياناً في التصدي للتهريب على أوسع نطاق من جهة ثانية، ملاذاً مثالياً وتربة خصبة للاستمرار في برامجها وتحقيق أهدافها في ظروف مثالية.
وبالنسبة لـ”حزب الله”، تُعتبر “مدينة الشرق” مدينة أخرى، أو ضاحية إضافية تدور في فلك مقره الرئيسي المركزي في بيروت، بفضل انتشار الجالية اللبنانية في كل قارات العالم ودوله، وبينهم عدد كبير من الموالين له طوعاً أو قسراً، ينخرطون في تمويل الحزب برغبتهم، أو اضطراراً، وبطريقة قانونية أو غير شرعية.
خارطة الجريمة والإرهاب
وتعتبر منطقة الحدود الثلاثية، التي تتمحور حول مُدن بورتو ايغواذو الأرجنتينية، وفوز ايغواذو البرازيلية، وأشهر مدن المثلث، ثويداد ديل إيست الباراغوانية، من أشهر النقاط السوداء اليوم على خارطة الجريمة والتهريب والإرهاب، عاصمة المهربين والإرهابيين والجواسيس من كل حدب وصوب، في منطقة جعلت من مدينة الشرق، ثاني مدن باراغواي، محور كل عمليات التهريب والجريمة المنظمة والتجارة الممنوعة، في اتجاه المدن البرازيلية أو الأرجنتينية الكبرى، التي لا تبعد عنها سوى بضع مئات من الكيلومترات.
في هذا المناخ الرمادي، نجح “حزب الله” بفضل الحاضنة اللبنانية من جهة، والقصور والعجز الأمني والاستخباري في المنطقة من جهة ثانية، من اكتساب جذور راسخة وقوية سمحت له بإقامة شبكة واسعة من العلاقات والمصالح المالية والتجارية في جميع القارة الأمريكية، انطلاقاً من هذه الضاحية التي شهدت قفزة مذهلة في عدد سكانها من أقل من 35 ألف ساكن في منتصف السبعينيات من القرن، إلى أكثر من 700 ألف ساكن في بداية الألفية الثالثة.
وفي تقرير لها عن مدينة “سويداد ديل إيست”، تقول صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، على لسان هكتور غيرين، رئيس تحرير صحيفة لافانغوارديا البارغاواي، قبل بضع سنوات: “في سويداد يمكنك أن تولد وتحيا وتعيش، أن تشتري سيارة، أو تتزوج وتنشئ عائلة، أو تجارة، دون أن الحاجة إلى توقيع أي وثيقة رسمية، أما إذا اضطررت إلى وثيقة رسمية، صالحة في دول المنطقة، فيمكنك ببساطة تأجيرها مقابل ألف دولار”.
إن هذا التفهم أو المرونة، في بارغواي، تعود حسب الصحيفة نقلاً عن رئيس منظمة المستوردين في المدينة، اللبناني الأصل شريف حمود، إلى أنه “لا قداسة في ثويدات ديل إيست إلا للدولار”.
وبسبب موقعها الاستراتيجي والثروات المالية الكبرى التي تكدست فيها بطريقة شرعية أو غير قانونية، نجح “حزب الله” في اختراق المدينة وكامل المثلث الحدودي، الأمر الذي جلب أنظار المخابرات الأميركية والغربية عموماً لنشاط الحزب المتزايد في المنطقة خاصة في مجال تهريب المخدرات، وتهريب البضائع المقلدة والاتجار في البشر والأسلحة، ما يجعل المدينة والمنطقة آلة رئيسية لضخ السيولة في خزائن الحزب وتمويل أنشطته على أوسع نطاق ممكن.
مضحة سيولة
ورغم معرفتها بحضور الحزب منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي في المنطقة، إلا أن الولايات المتحدة لم تتعامل بجدية وحزم مع أنشطة الحزب في المنطقة، إلا بداية من أواخر التسعينيات تقريباً، بعد تزايد ارتباط الحزب بكارتيلات المخدرات وتهريبها إلى الأسواق الأمريكية شمالاً وإلى بعض الأسواق الأخرى في مناطق مختلفة من العالم مثل الشرق الأوسط.
وكان موقع وكيلكس، أول من تعرض إلى الجهود الأميركية المتنامية لمكافحة حضور الحزب في هذه المنطقة، منذ منتصف الثمانينيات بعد تحول المنطقة برمتها إلى منطقة نشاط خطير على المستوى الدولي، بعد تدفق عصابات الجريمة والتهريب من أوروبا وآسيا وأفريقيا، على المنطقة، وبعد وصول قيادات من القاعدة وشخصيات من “حزب الله” والإخوان المسلمين أيضاً إلى مدن المثلث الحدودي، للحصول على مكاسب مالية سريعة وكبيرة لتمويل برامجها ومشاريعها، بل إن بعض التقارير تحدث في وقت من الأوقات عن لجوء بن لادن زعيم القاعدة نفسه إلى المنطقة هرباً من المطاردة في أفغانستان وباكستان.
وفي هذا المناخ الرمادي من الجريمة والتهريب، زرع “حزب الله” خلايا ومجموعات كثيرة أثبتت سريعاً نجاعتها خاصةً في تهريب المخدرات، ورسكلة الأموال غير الشرعية وغسلها عبر مسالك تجارية شبه شرعية، قبل ضخها من جديد في شرايين الحزب في لبنان وفي مختلف دول العالم.
تقرير القتيل الأرجنتيني
ومن أشهر الوثائق التي صدرت في هذا المجال، التقرير من 500 صفحة، الذي أعده المدعي العام الأرجنتيني البرتو نيسام، الذي قُتل في الفترة القليلة الماضية بطريقة غامضة ومثيرة، أجبرت البرلمان الأرجنتيني على تشكيل لجنة للتحقيق في وفاته بعد إصدار جهات دولية ومحلية شكوكها في دور إيران ووكيلها حزب الله في تصفيته بسبب تأكيده أن “إيران بشكل عام ومباشر، أو عن طريق وكلائها، نجحت منذ بداية الثمانينيات في إقامة قاعدة ضخمة لها في المنطقة، لدعم برامجها السرية لدعم الهجمات الإرهابية في المنطقة والعالم، وعبر شبكات وخلايا، تضم إلى جانب المثلث الحدودي ودوله الثلاث، الأوروغواي، شيلي، وكولومبيا، وغويانا، وترينيداد وتوباغو، وصولاً إلى سورينام”.
ومن أبرز القضايا التي أثارت انتباه السلطات في أميركا اللاتينية وفي العالم بشكل عام، التقرير الذي أصدرته وزارة الخزانة الأميركية، وزارة المالية، في 2010 التي اتهمت بشكل مباشر 31 شخصاً ومؤسسة، بالتورط في تجارة المخدرات بين دول كثيرة من أبرزها كولومبيا، وبنما، بقيادة اللبناني الموالي لـ”حزب الله”، أيمن سعيد جمعة، المتخصص في تبييض أموال الحزب المتأتية من تجارة المخدرات عن طريق الكارتيل المكسيكي زيتاس، بين 2005 و2007، وتحويل أرباحها الضخمة لفائدة الحزب.
كوكايين “حزب الله”
ومنذ 2009، كشف تقرير لراند كوربوريشن، تورط حزب الله في تجارة المخدرات والكوكايين أساساً في كولومبيا، وهو الاتهام الذي أكدته الولايات المتحدة أخيراً بعد تفكيك شبكة تهريب للمخدرات الكولومبية في بداية كانون الثاني 2016.
واتهمت راند كوربوريشن، الحزب بوضع شبكاته الواسعة في المنطقة الحدودية الشهيرة وفي عدد من دول القارة الأخرى، لتبييض وغسيل أموال تجارة الكوكايين المهربة لمصلحة القوى الثورية المسلحة الكولومبية التي تخوض تمرداً عسكرياً مسلحاً منذ أكثر من نصف قرن في كولومبيا.
اغتيال السفير السعودي
ومن كولومبيا، إلى فنزويلا المجاورة، التي أكدت التحقيقات الدولية فيها منذ تشرين الأول تورط حزب الله، في التخطيط لمحاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن، بالتعاون مع فرع كارتيل زيتاس المكسيكي في كاراكاس، لمصلحة الحزب وبأمر إيراني.
وبالتدقيق في الوثائق والتقارير والتسريبات خاصة موقع التسريبات ويكليكس، فإن السلطات في الدول الثلاث التي كانت تراقب تمدد الحزب في المنطقة الحدودية، التي تحولت إلى مقرّ قيادة وعمليات الحزب في القارة الأمريكية، لم تكن تملك الإرادة أو الرغبة في التصدي، إما تفادياً لهجمات انتقامية جديدة مثل الأرجنتين، بعد مذبحة 1994 التي أوقعت عشرات القتلى والجرحى في بيونس ايريس، أو خوفاً من تمدد حركات التمرد اليسارية المسلحة بدعم من الحزب، مثل باراغواي، التي كانت تعاني من حركات ثورية ماركسية “الحركة الثورية الباراغوانية” التي تُعد الذراع المحلي للحركة المتمرد في كولومبيا القريبة.
أما البرازيل التي تحتضن أكبر عددٍ من المهاجرين العرب واللبنانيين في جنوب القارة الأميركية، فكانت حسب موقع التسريبات ترفض “اتهام أو وسم المسلمين بالإرهاب، في ظل غياب معلومات دقيقة من الجانب الأمريكي” الذي كان يرفض إبلاغها بأي معلومات حساسة خوفاً من تسربها إلى الحزب وإلى إيران، بسبب الاختراقات الواسعة لأجهزة الأمن فيها.
مجوهرات الدم
ولكن “ثويدات ديل إيست”، لم تكن مجرد قاعدة لتهريب، أو تبييض أموال المخدرات، بل كانت ولاتزال إلى اليوم، قاعدة أساسية، لتهريب المجوهرات والمعادن النفيسة المهربة من أفريقيا، خاصة في دول أنغولا، وجنوب أفريقيا وكوت ديفوار، وسيراليون، وليبيريا، بما في ذلك أثناء الحرب الأهلية التي عصفت بهما، ورغم الحظر الدولي الذي كان مفروضاً، عن طريق شبكات تابعة لـ”حزب الله” في أفريقيا، نحو المثلث الحدودي، قصد تسهيل إعادة تصدريها إلى سوقي الولايات المتحدة ووصولاً إلى أوروبا، ومدينة أنفرس البلجيكية، عاصمة صناعة المجوهرات في العالم.
وكشفت تقارير وتسريبات المخابرات البلجيكية، الدور الحيوي الذي لعبته شبكات الحزب في مدينة الشرق الأميركية، في تهريب الأحجار الكريمة والمجوهرات غير القانونية، من غرب أفريقيا إلى القارة الأميركية، وذلك منذ 2003.
وفي تقرير صدر في 2002 لمنظمة “غلوبل ويتنس” المتخصصة في مكافحة تهريب الأحجار الثمينة التي كانت تعرف زمن الحرب الأهلية في سيراليون بـ”مجوهرات الدم” أن ممثل “حزب الله” في أميركا الجنوبية، انتقل شخصياً للإشراف على عمليات تهريب الأحجار الكريمة من البلدان الأفريقية الواقعة غرب القارة، من ليبيريا إلى سيراليون، ومن أنغولا إلى الكونغو الديموقراطية، وكونغو برازافيل، وإعادة رسكلة الأرباح المتأتية منها في مشاريع شرعية، بفضل سيطرة الجالية اللبنانية على 80% من رخص استخراج والتنقيب عن المجوهرات والحجاة الكريمة في كامل غرب أفريقيا.
وفي تقرير المنظمة نفسها، فإن الأغلبية الساحقة من تجار المجوهرات وتجارة الأحجار الكريمة الخام “لبنانيون أو من أصل لبناني وتحديداً من جنوب لبنان، خاصة من مدينة صور، ومن الموالين للحزب”.