جاسم عجاقة
يُشكّل الإستهلاك النهائي للأسر في لبنان المُحرّك الأساسي للدورة الإقتصادية مع تخطيه عتبة الـ 100% من الناتج المحلّي الإجمالي في الأعوام المُمتدّة من 2011 إلى 2014. ويبقى السؤال الأساسي عن مصدر تمويل هذا الإستهلاك وكيفية تخطيه مدخول اللبناني.
يُشكّل الإستهلاك النهائي للأسر أحد العامودين الأساسيين الذين يقوم عليهما الإقتصاد. وإذا كان الإستثمار – العمود الثاني – قد تراجع في لبنان بشكل كبير منذ بدء الأزمة السورية إلا أن الإستهلاك النهائي زاد بشكل ملحوظ كما تُثبته أرقامنا. وقد شكّل هذا الإستهلاك محركاً أساسياً في النشاط الإقتصادي من ناحية أن حجمه الذي يفوق الـ 90% من الناتج المحلّي الإجمالي وتخطيه هذا الأخير في الأعوام 2011 إلى 2014 شكّل المحرك الأساسي وشبه الوحيد للناتج المحلّي الإجمالي.
الجدير بالذكر أنه لا يوجد أرقام للإستهلاك النهائي للأسر في لبنان، لذا عمدنا إلى حساب هذه الأرقام من مكونات الناتج المحلّي الإجمالي حيث يُظهر الرسم الأرقام التي إستحصلنا عليها. ويحق للقارئ أن يتساءل عن واقعية هذه الأرقام التي تفوق الناتج المحلّي الإجمالي؟ وهنا لابد من التذكير أن الإقتصاد الأميركي هو إقتصاد إستهلاكي بإمتياز مع إستهلاك يبلغ أكثر من 75% من الناتج المحلّي الإجمالي. وهذا لا يعني أن الإقتصاد اللبناني هو إقتصاد مُتطور لا بل على العكس ففي بعض البلدان التي تُعاني من ضعف إقتصادي كبير كأفغانستان، يبلغ الإستهلاك 109% من الناتج المحلّي الإجمالي. وهذا يعني بكل بساطة أن الإستثمار يُعاني من نقص كبير إلى درجة أنه لا يُساهم تقريباً إلا بنسبة ضئيلة جداً في الناتج المحلّي الإجمالي. في حين أنه في الولايات المُتحدة الأميركية، هناك شبه إشباع للإستثمار في الماكينة الإقتصادية وبالتالي فإن ثمرة هذه الإستثمارات تُقطف في الإستهلاك.
الإستهلاك النهائي للأسر يضمّ إستهلاك المنتجات المُعمّرة، الألبسة، الطعام، الخدمات وغيرها. وعادة يتمّ تمويل هذا الإستهلاك من الأجور ومن الإقتراض. وتُشكّل زيادة الأجور عاملاً طبيعياً لزيادة الإستهلاك في حين أن الإقتراض هو وسيلة تستخدمها الحكومات في سياساتها الإقتصادية بهدف تحفيز الإستهلاك النهائي عبر تسهيل الحصول على قروض إستهلاكية.
أما في لبنان فيعود تمويل الإستهلاك النهائي إلى عدة مصادر:
أولاً الأجور: إن الأجور في لبنان بقيت على مستوياتها العامة وبالتالي من الطبيعي القول أن الأجور لم تؤثر على الإستهلاك النهائي للأسر.
ثانياً القروض: إن العلاقة شبه الخطية (quasi-linear relationship) الموجودة بين القروض للقطاع الخاص والإستهلاك تُظهر أن معظم القروض للقطاع الخاص ذهبت إلى الإستهلاك وبالتالي نستنتج أن القروض ساهمت إلى حدٍ بعيد برفع حجم الإستهلاك النهائي للأسر. وهذا السلوك للمواطن اللبناني هو سلوك مثالي من ناحية أن تجاوب اللبناني مع القروض لرفع الإستهلاك هو شيء نادر وذلك لقلّة التجاوب عامة من قبل الشعب مع السياسات الحكومية.
ثالثاً: تحويلات المُغتربين: يظهر من البيانات التاريخية لتحويلات المغتربين ومن حساباتنا للإستهلاك النهائي للأسر أنه ومنذ العام 2006 وحتى العام 2009، شهد الإستهلاك إرتفاعاً مع إرتفاع تحويلات المُغتربين الذين موّلوا بشكل أساسي العقارات والإستهلاك العام. ونلحظ أنه منذ العام 2010 ومع تراجع التحويلات لم يتأثر الإستهلاك بشكل كبير مدعوماً بمداخيل أخرى سنذكرها لاحقاً.
رابعاً النشاط الإقتصادي: نلحظ من العلاقة بين الإستهلاك النهائي للأسر وبين الإستثمار أن الإستهلاك إرتفع بشكل خطّي مع الإستثمارات قبل أن تتراجع هذه الأخيرة من دون أن يكون لهذا التراجع تأثير كبير على الإستهلاك مرجحة بذلك وجود مداخيل أخرى دعمت هذا الإستهلاك. أما العلاقة بين الإستهلاك والتصدير فتُظهر مدى تأثير النشاط الإقتصادي على الإستهلاك حيث أن إرتفاع التصدير حتى العام 2012 كان له تأثير إيجابي وفي الأعوام التي تلت كان هناك تراجع في نسبة زيادة الإستهلاك.
خامساً مداخيل أخرى: مما سبق، نرى أن العوامل الإقتصادية وحدها غير كافية لتفسير نسبة إرتفاع الإستهلاك النهائي للأسر في لبنان. وبالتالي هذا الأمر يُرجّح وجود مداخيل أخرى للمواطن اللبناني غير واضحة المعالم في الحسابات الوطنية وعلى رأسها الإقتصاد غير الرسمي والذي يعني أن بعض النشاطات الإقتصادية لا تُسجّل في هذه الحسابات بحكم أن بعض المعنيين لا يُصرّحون للضمان ولا للمالية بهدف التهرّب من دفع الضرائب إضافة إلى نشاطات أخرى.
من هذا المُنطلق نرى أن المواطن اللبناني يذهب أبعد من السياسات الإقتصادية للحكومة عبر نضوجه الإستهلاكي وبالتالي من المنطقي القول أن أي سياسية إستثمارية للحكومة أو للقطاع الخاص ستلقى تجاوباً كبيراً من قبل الأسر وبالتالي ستُترجمّ بنقلة نوعية للنمو شبيهة بتلك التي تمّ تسجيلها عقب عدوان تموز 2006. لذا نرى أن على الحكومة اللبنانية الإسراع في وضع خطة إقتصادية تنقسم إلى ثلاثة محاور:
أولاً: دعم الإستثمارات خصوصاً في القطاعات الواعدة كإقتصاد المعرفة لكن أيضاً في القطاعات حيث الإستيراد الإستهلاكي كبير وذلك بهدف نقل الإستهلاك من الإستيراد إلى الإنتاج المحلّي.
ثانياً: وضع الأطر القانونية اللازمة بهدف تحفيز هذا المناخ الإستثماري عبر سياسات ضريبية مؤاتية تسمح بجذب الإستثمارات (في الواقع رؤوس الأموال قابعة في المصارف ولا تُستثمر في الإقتصاد) وبالتالي زيادة الإنتاج المحلّي على حساب الإستيراد.
ثالثاً: وضع إطار قانوني جاذب لتحفيز عمل اليد العاملة اللبنانية على حساب اليد العاملة الأجنبية وذلك عبر الأداة الضريبية والتي يجب أن تُشجّع رب العمل على إستخدام العامل اللبناني حتى ولو كانت اليد العاملة الأجنبية أرخص.
هذا الأمر وحده كافٍ لدفع النمو إلى الإرتفاع وربما إذا ما تحسنت الظروف السياسية والأمنية، يمكن الوصول إلى نسب نمو الأعوام 2007-2010.