وقد اعتقد البعض، مع ظهور الراديو ومن ثم التلفزيون، وتطور التقنيات للبث المباشر على مساحة الكرة الارضية، ان زمن الاعلام المكتوب قد ولّى. لكن المواجهة انتهت الى استمرارية الاعلام بكل فروعه، ووصلت الامور الى نوع من التعايش وتقاسّم الحصص.
اليوم، تبدو المواجهة من نوع آخر، لأنها لم تعد بين المكتوب والمرئي او المسموع، بل اصبحت بين الورق والديجيتال. انها معركة الاعلام المكتوب في عقر داره. فالكلمة في مواجهة مع الكلمة، وخطوط التماس بينهما، الورق والشاشة الالكترونية.
من خلال مراجعة اوضاع هذه المواجهة في العالم، تتكشف مجموعة من الحقائق التي ينبغي أخذها في الاعتبار، لدى مقاربة أزمة الاعلام اللبناني، اذ تختلف التأثيرات السلبية التي تكبدتها الصحف في العالم بين بلد وآخر، مع الاشارة الى ان الفروقات لا ترتبط فقط بمدى انتشار استعمال القراءة الالكترونية. بمعنى، ان معدل الخرق الالكتروني في الولايات المتحدة شبيه بما هو عليه في عدد كبير من البلدان الاوروبية، ومع ذلك كانت التداعيات في اميركا اكبر وأخطر.
كذلك، فان اوضاع الصحف المكتوبة تختلف بين دولة اوروبية واخرى وفقا لعوامل لا علاقة لها أيضا بنسبة انتشار الخرق الالكتروني. مثالٌ على ذلك، تراجعت عائدات الصحف من الاعلانات في سنة (2008-2009)، %25 في الولايات المتحدة، %22 في بريطانيا، %8 في فرنسا، %6 في هولندا، %2 في النمسا، و%27 في تركيا! في المقابل، وفي العا نفسه، زادت العائدات الاعلانية للصحف في لبنان %10، في مصر %10، وفي الهند %13.
هذه الأرقام تؤكد ان تراجع عائدات الصحافة الورقية، لا يرتبط فقط بنسب الخرق الالكتروني، من دون التقليل من اهمية المنافسة الالكترونية والتي هي اساسية في أزمة الصحافة الورقية بشكل عام.
في هذا السياق، يمكن ايراد مجموعة من العوامل المؤثرة في تحديد الاضرار التي تلحق بالصحافة المكتوبة، منها عوامل تنطبق على الحالة اللبنانية الى حدً ما، وعوامل أخرى لا تشبهنا. على سبيل المثال أيضا، تشهد الهند عصراً ذهبياً في ازدهار صحافتها المكتوبة، ويعود ذلك الى التطور الذي تشهده عملية مكافحة الأُميّة، بحيث ان عددا كبيرا من السكان يتعلم القراءة والكتابة حديثا، وقسم كبير من هؤلاء ينضم الى نادي قراء الصحف، على اعتبار ان قراءة صحيفة بالنسبة الى هؤلاء نوع من انواع المفاخرة في المجتمع.
كذلك يبدو ان عامل الديمقراطية يؤثر في انتشار الصحف، بحيث ان الدول والمجتمعات التي تتلمس طريقها الى تثبيت النظام الديمقراطي، او التي لديها قضايا وطنية تناضل من أجلها، يتلقف مواطنوها الصحف بكثافة، وهذا ما يفسّر ارتفاع مبيعات الصحف في عام، في كل من روسيا (%9.3)، كوسوفو (%12.5) هنغاريا (%6.9)، البرتغال (%5.3)، أرمينيا (%9.1)…
الى هذه العوامل، هناك الملف الاقتصادي الذي يؤثر بشكل مباشر على الصحف. ومن المعروف ان السوق الاعلاني هو المصدر الرئيسي للتمويل في الدول الديمقراطية المتطورة. وهذا ما يفسّر الهبوط الكبير الذي عرفته الصحف الاميركية في خلال الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 2007.
وبعد عامين، كانت عائدات الاعلان والتوزيع قد تراجعت بنسبة %30. وبالتالي، من الواضح ان الوضع الاقتصادي يؤدي الى تقليص الحصص الاعلانية بسبب خفض المؤسسات لموازناتها الاعلانية، ويؤدي ايضا الى تقليص عدد القراء، بسبب تردّد البعض في دفع ثمن الصحيفة الورقية.
في لبنان، تبدو الأزمة التي خرجت الى العلن أخيراً، مرتبطة بمجموعة من العوامل قسم منها متعارف عليه عالميا، وقسم آخر خاص بالوضع اللبناني، ومنها:
اولا- تراجع نسبة قراء الورق مقابل ارتفاع عدد متابعي الكلمة عبر الشاشة الالكترونية.
ثانيا- اضمحلال القضايا الوطنية والاستقلالية التي يناضل من اجلها اللبنانيون.
ثالثا – الأزمة الاقتصادية المتراكمة منذ بدء تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، بحيث ان حجم السوق الاعلاني توقف عن النمو، وتراجعت القدرات الشرائية للمواطن.
رابعا – غياب التخطيط الاستراتيجي لادارات معظم الصحف، لمواكبة التطورات والتغييرات، والتأقلم معها من خلال تنفيذ التغييرات الضرورية في الهيكيلية والمضمون.
خامسا – اضمحلال حجم المال السياسي الذي كان يغذي عددا من الصحف اللبنانية.
سادسا – غياب جزء اساسي من الدور الاعلامي الاقليمي الذي كانت تضطلع به الصحف اللبنانية في الحقبات السابقة.
سابعا – غياب الرعاية الرسمية للصحف، والمعتمدة في عدد من البلدان.
كل هذه العوامل تضافرت لتشكّل ما يُعرف بأزمة الصحف، لكن المُلاحظ ان الأزمة الاقتصادية اساسية في هذا المجال، وما تعاني منه الصحف، هو انعكاس في قسم منه لما تعانيه كل المؤسسات الاعلامية، بما فيها المسموع والمرئي، والمؤسسات غير الاعلامية بشكل عام، في ظل وضع اقتصادي يتراجع منذ العام 2011، سنة بعد سنة.