كتب طارق ترشيشي في صحيفة “الجمهورية”:
كان منتظَراً أن تستعيد قوّات النظام السوري وحلفاؤها مدينة تدمر الأثرية والتاريخية من براثن «داعش» وأخواتها، كنتيجة طبيعية للتقدّم الميداني الذي كانت هذه القوات قد أحرزَته في بقيّة المناطق السوريّة.لكنّ الأهمّ من تدمُر هو ما بعدها، فما كان قبلها شيء، وما بعدها سيكون شيئاً آخر على مستوى مستقبل الأزمة السورية بشقّيها السياسي والعسكري.
عسكرياً كان يجب استعادة تدمر الواقعة على مثلث يربطها بالبادية وحلب وحمص وريف دمشق ودير الزور، وذلك لقطع كلّ خطوط الإمداد لداعش عبر مسالك هذا المثلث.
أمّا سياسياً فإنّ استعادتها يمكن أن تغيّر في الموازين السياسية على طاولة المفاوضات، وربّما توفّر لبعض أطراف المعارضة فرصة تحسين شروطهم في حال انخرطوا في المعركة المقبلة ضد «داعش» في دير الزور والرقة.
ويقول أحد السياسيين الوثيقي الصلة بدمشق إنّ استعادة تدمر حقّقت الآتي:
أوّلاً- إسقاط نظرية تقسيم سوريا، وأثبتت أنّ «سوريا المفيدة» ليست كياناً محدوداً وإنّما هي سوريا كلّها في النهاية.
ثانياً- أنّ تحرير تدمر من «داعش» سينعكس على ثلاث جبهات: جبهة محيط دمشق (أي الغوطتين)، وجبهة الرقة ودير الزور التي كانت تشكّل العمقَ الاستراتيجي لـ«داعش»، وجبهة القلمون والحدود اللبنانية – السورية، لأنّ كثيراً مِن المقاتلين كانوا يتسرّبون من تدمر إلى هذه الجبهة، وكانت لدى «داعش» خطة لإقامة خط يمتدّ من تدمر إلى القلمون – عرسال وصولاً إلى الشاطئ اللبناني شمالاً، ومن هنا يمكن فهم الهجوم الذي شنّه المسلحون المتطرّفون على منطقة حنيدر في عكار قبل أيام.
ثالثاً- وجّهت روسيا من خلال استعادة تدمر رسالةً داخلية وخارجية، مفادُها أنّها ما تزال موجودة في سوريا، وأنّ الانسحاب العسكري الروسي، على حدّ ما قال الروس للقيادة السورية وحزب الله، اقتصَر على سحبِ «فائض القوّة»، وأنّ القوّة الروسية التي تحتاجها المعركة في سوريا ما تزال موجودة.
رابعاً- أنهت معركة تدمر أيّ تردّد أو نقاش في موضوع مصير الرئيس بشّار الأسد على رأس النظام.
خامساً- جاءت استعادة تدمر متماثلةً مع ما جرى في اليمن من تظاهرات ضخمة للحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح في مناسبة مرور سنة على بدء الحرب، وشكّلَت في معنى من المعاني نوعاً من الردّ الشعبي – السياسي على الفريق الآخر في اليمن. ما جعلَ البعض يعتقد أنّ ما حصَل في اليمن كان «انتصاراً سياسياً، وأنّ ما حصَل في تدمر كان «انتصاراً عسكرياً».
ويرى هذا السياسي أنّ التقديرات تتّجه إلى أن يكون ما حصل منطلقاً لبداية حوار سعودي ـ إيراني يقال إنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي أبلغَ إلى الامم المتحدة، وتحديداً إلى الأمين العام بان كي مون خلال زيارته للبنان الأسبوع الماضي استعدادَه للسعي إلى تحقيق هذا الحوار السعودي – الإيراني.
بحيث إنّه يمكن أن يعاود برّي الكرّةَ بعد أن فَعلها خلال زيارته لإيران قبل أقلّ من سنتين أيام الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، حيث كان استبق زيارته تلك لطهران بكلام شدّدَ فيه على ضرورة حصول تفاهم سعودي ـ إيراني، ولدى وصوله إلى العاصمة الايرانية التقى توّاً المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الايرانية السيّد علي خامنئي قبل أيّ لقاءات مع رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني ورئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني.
وقيل يومها إنّ برّي قال للسيّد خامنئي: «لقد عقدتم اتّفاقاً مع أميركا (كان يومها قد حصَل الاتفاق الأوّلي بين إيران والولايات المتحدة الاميركية وحليفاتها الغربيات) فهل السعودية أبعد عنكم من أميركا؟». وردّ السيّد خامنئي باللغة الفارسية متحدّثاً مع لاريجاني الذي كان حاضراً في اللقاء وفهمَ منه برّي أنّه طلبَ أن يزور وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف المملكة العربية السعودية.
وقد أعلنَ لاريجاني يومها أنّ ظريف سيزور الرياض في إطار جولة خليجية، وفعلاً زار ظريف لاحقاً الكويت وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنّه لم يتمكّن مِن زيارة الرياض لأنه أبلِغ أنّ وعكة صحّية ألمَّت بالملك عبدالله ولا يستطيع استقباله في حينه، فتأجّلت هذه الزيارة إلى حين إبلال الملك من وعكته، ولكنّ صحّة الملك تدهورَت وتوفّي، فعادت الأمور في هذا المجال إلى نقطة الصفر.
ويقول السياسي الوثيق الصلة بدمشق نفسُه، إنّ كثيرين يسألون في هذه المرحلة: «هل إنّ برّي سيعاود تحريك هذا الموضوع الآن، خصوصاً أنّ حجّته باتت في هذه المرحلة أقوى لدى الطرفين: حجّتُه إزاء دول الخليج أنّ ما راهنَت عليه هذه الدول قد سقط. وحجّتُه إزاء الإيرانيين أنّ بقاء التوتّر القائم بينهم وبين دول الخليج والذي يتّخذ طابعاً مذهبياً ليس في مصلحة إيران وجاراتها الخليجيات؟». ولا يستعبد هؤلاء المتسائلون إقدامَ برّي على هذه المبادرة، في اللحظة المناسبة.
على أنّ ما بعد استعادة تدمر ستتّجه الأنظار إلى دير الزور والرقة، حيث يتوقّع أن تشهدا في قابل الأسابيع والأشهر مواجهات عنيفة ضد «داعش» يمكن أن تتلاقى فيها قوات النظام بطريقة غير مباشرة مع «قوات سوريا الديموقراطية» التي تجمع بعض فصائل المعارضة وضمنها الأكراد، وتلقى دعماً أميركياً، خصوصاً أنّ المعلومات تشير إلى أنّ الجانب الروسي بدأ يَشعر للمرّة الأولى بأنّ هناك جدّية أميركية في العمل على مكافحة «داعش» وأخواتها، على أن تتزامن هذه المعركة مع معركة أخرى سيشنّها الجيش العراقي وقوّات «الحشد الشعبي» بمؤازرة أميركية لتحرير مدينة الموصل، وقيل إنّ قوّة خاصة أميركية ستشارك في هذه المعركة.