كتب هيثم الطبش
لو كنت على كرسي رئاسة التحرير في صحيفة “الشرق الأوسط” أو مكان أي من الزملاء العاملين فيها، ماذا كنت لأكتب في افتتاحية السبت؟ تتسابق الأفكار لتبرير الكاريكاتور أو لتبرير رد الفعل عليه إلا أن الحقيقة التي لا تقبل القسمة على اثنين هي أن كل ما يجري في لبنان يؤكد أن الدولة غائبة وسائبة وفي سبات لا تستفيق منه، وأنها بمفهومها المؤسساتي كذبة كبرى.
فات الجماهير التي احتكمت إلى عصبيتها إن منها الذين هاجموا مكاتب الصحيفة أو أولئك الذين فجّروا غضبهم على مواقع التواصل الاجتماعي، التمييز بين مفهوم البلد والدولة. فلبنان البلد الضارب في عمق التاريخ لم يقاربه الرسم لا من قريب ولا من بعيد، إنما صوّب على “الدولة” العاجزة المتراخية المنهارة.
كم مرّة يسأل أحدنا يومياً “وينيّي الدولة؟”، ألم تتحوّل هذه العبارة ومعها كل إخفاقات الدولة إلى مشاهد فكاهية على الشاشات المحلية؟ فما الضير إذاً أن يجسّدها رسّام برؤيته الخاصة؟ هل من مُخرج أو ممثّل لم يتعامل مع الدولة بوصفها فاشلة، فلماذا تسمح لهم وتُحرّم على غيرهم المقاربة ذاتها؟ ولماذا علينا أن نثور عندما تعرّينا صحيفة لتصفنا بما نحن فيه من دون أن تلصق بنا ما ليس من صفاتنا؟
في بلد يستمر بلا رأس للجمهورية أكثر من سنتين، نعم نحن في كذبة، وفي أي رقعة على ظهر الأرض تُركّب الانتخابات النيابية بقانون يختلف في كل دورة باختلاف ما يكفل فوز القوى الحاكمة، وفي دولة تُبتكر في نظامها الخزعبلات السياسية من قبيل “الديموقراطية التوافقية” و”الميثاقية” التعجيزية و”الإجماع” المسبق، وعندما لا تتمكن حكومة من الاجتماع بسبب تهديد وزير أو اثنين، وعندما يريد رئيسها التنحي ولا يجرؤ، حين يخون الحلفاء حلفاءهم في السياسة والتضحية والشهادة، لا إسم لكل تلك الشواذات إلأ أنها كذبة ولا وصف لمفهوم السياسة إلا أنه كذبة.
في بلد لا تستطيع حكومته حل أزمة نفاياتها وتركب الصفقات والسمسرات لترحيل أكوام القمامة، ماذا نسمي الدولة؟ في المؤسسات التي ينخرها سوس الفساد والسرقة وفضائح الاختلاس في القطاعات كافة تكون الدولة أيها السادة كذبة، في أي مساحة جغرافية تنفق أكثر من 30 مليار دولار من دون الحصول على كهرباء، وعنتدما تكون المياه والطعام والهواء أدوات قتل مجاني بالتلوث تكون الدولة وخدماتها الحياتية كذبة.
عندما يتحكم “حزب الله” بمصير شعب وبلد خدمة لمشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى الإقليم ويفسد العلاقة مع العرب ليجعل البلد أقرب إلى الفارسية، وحين يخطف المواطنون جهارا نهاراً يختفون أياما وسنوات وتصبح طريق المطار والبقاع والضاحية والجنوب مناطق يخاف اللبنانيون حتى عبورها، عندما يغلق وسط البلد مع حليفه السياسي، ويهدد القطاع المصرفي بعمليات مشبوهة، يكون الأمن والسيادة والمال والتجارة أكاذيب.
ما كان عسى رسّام الكاريكاتور في “الشرق الأوسط” أن يقول عن لبنان؟ لو أنه رسم بلادنا جنة تملؤها الأشجار الخضراء والخدمات الحياتية الممتازة والاستقرار الكامل، لقلنا عليه كذاباً…
الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة هو ما جاء في رسم الصحيفة، ولأن الحقيقة جارحة وطعمها مرّ كان طبيعياً ربما الشعور بالغضب. الحقيقة أننا تركنا الأمر للرعاع والزعران ليتصرفوا مع الإعلام بالشكل الذي حصل، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أننا نعيش فعلاً في دولة كذبة لا تستحق أن تحكم نفسها. أمس كانت المحطة مع “الشرق الأوسط” ومن قبلها مع وسائل إعلام تجرأت على تقليد المساهم الأكبر في تحويل لبنان إلى كذبة، وغداً مع غيرها وفي المحصلة قد يغادر الإعلام الأجنبي بينما نبقى نحن نتفيّأ في ظل لبنان… الدولة الكذبة.