Site icon IMLebanon

لبنان الحضاري اختفى!

middle-east-paper

كتب محمّد الرميحي في صحيفة “الشرق الاوسط”:

مع أخبار غير سارة قادمة من لبنان التي تقول: “إن صحفًا قد أغلقت وإن صحفًا أخرى في طريقها إلى الإغلاق”، ينتهي عصر كان ذهبيًا للإعلام اللبناني، ومعه ربما ينتهي دور لبنان التنويري الذي لعبه في العقود الخمسة الماضية.

في العقود الذهبية، كان لبنان ملاذًا ومتنفسًا لكثير من العرب، للمدح أو الذم، حتى أصبح ظله أطول من قامته، وحزبه أكبر من دولته.

الدول مثل البشر تشيخ أيضًا، ربما شيخوختها لا تلاحظ بسرعة، ولكنها في النهاية تشيخ بسبب إهمال أهلها وشجارهم، وقد تحوّل لبنان الدولة من مركز للمدح وللذم إلى مركز لسفك الدم، سواء في سلسلة الاغتيالات التي قام بها فريق منه ضد فريق آخر، أو بسبب تصدير المقاتلين خلف الحدود، وتدريب الإرهابيين. هو مسلسل الدم الذي لا ينقطع، فلم يعد لبنان ذلك البلد الصغير الحيوي الذي يطلب الكثيرون وده، حتى لو كان السبب هو أن يستخدم إعلاميًا للنكاية أو سياسيًا للتشفي. العصر اختلف تمامًا، فالشعارات الزاعقة التي كانت تجلب التمويل انتهت، كما وصل الجيران العرب إلى مرحلة الاستغناء عن الصداع اللبناني. كان الزعيق إما يساريًا أو قوميًا، وكان يدر على بعضهم الدخل الرغد. كان بمقدور البعض في لبنان أن يساير بعض الزعيق، حتى أصبح التحيّز طريقة عيش كاملة. ربما لم يفهم اللبنانيون، أو كثير منهم، أن دور لبنان التقليدي في محيطه في الأساس هو تنويري وليس تقتيليًا، بمعنى كونه حاضنة للخلاف العربي – العربي، ومكانًا للمناطحة عن بعد، ثم تحول منذ أن تسيد “حزب الله” في كيانه وكينونته عبوة متفجرة لمشروع خارج المشروع العربي، وهو المشروع الإيراني. ولَم يعد لبنان بقادر، لفترة طويلة، أن يحمل هذا المشروع من جهة، ويبقى عربيًا من جهة أخرى. تحمّل العرب في لبنان لسنوات مشروع “حزب الله” على أنه، أساسًا، مشروع مقاوم، ومن جهة أخرى، تسامح مع بعده الإيراني، لأنه كان مغطى بشعارات (مقاومة إسرائيل). كان ذلك الشعار يمكن أن يباع للبعض لفترة، ولكن بعد إرسال “حزب الله” ميليشياته لقتل الشعب السوري والاشتراك في مذابح السوريين، ومحاولة وأد ثورتهم على الظلم، تكشّف الأمر بوضوح وسقطت ورقة التوت، ودون لَبْس أو تضليل، زاد من انكشافها تصدي الحزب للحروب بالوكالة الباردة من خلال الإعلام، أو الساخنة من خلال البندقية في مناطق عربية أخرى.

بعض اللبنانيين لم ينتبهوا إلى تغير الدول، وأن كثيرًا من العرب يتحملون دكاكين لبنان العربي، ولكنهم على غير استعداد أن يتحملوا سوبر ماركت إيرانيًا مفتوحًا لكل البضائع، ومنها الاغتيالات في الداخل، والتدخل في الجوار، وخاصة في الجوار من سوريا إلى العراق إلى اليمن، إلى الخليج. لقد أصبح الآخر أكثر من مشاغب، صار خارجًا عن العائلة العربية وحزمة ناسفة في داخلها، ومأمورًا من آخرين لتدميرها، كلما عرف اللبنانيون ذلك كان أفضل للجميع. بعضهم يجادل أن الموقف من تجميد المساعدات لقوى الأمن والجيش اللبناني، ومنع الزوار الخليجيين من الذهاب إلى لبنان، على أنه مضرّ بالجسم اللبناني الصديق، ومناسب للجسم اللبناني العدو، وهو أمر لم تثبت صحته على شواهد موضوعية، فقد أصبح الأمن والاقتصاد والردع في يد “حزب الله”، وفُتح لبنان، من خلف باب الدولة، لكل من يرغب في التدريب والتآمر على الجيران، فماذا بقي من لبنان كي يمكن إنقاذه؟! لا شيء تقريبًا. القرار بإعلان “حزب الله” حزبًا إرهابيًا لم يأتِ من فراغ، بل جاء بعد صبر طويل على أعماله ودسائسه وكالة عن مموليه، حتى تلك الصحف التي كانت تجاريه لم يعد في حاجة إليها، لتبرير المشروع الإيراني – حزب الله. لقد اكتشف بعضهم، بعد طول مراوحة، أن الحزب يعنيه شيء واحد؛ أن تكون تحت بصره وتنطق بكل ما يرغب في ترويجه كل وسائل الإعلام، ولا حلول وسطى، بل العكس، استخدام سقوط بعض الصحف للقول إن هناك طرقًا عدة للتصفية بجانب الاغتيال، هي الاغتيال المعنوي للمتذاكين، وتشريد عشرات من الصحافيين الذين جاروا الحزب في وقت أو آخر، هو دليل على أن لبنان لم يعد لبنان حتى الذي يعرفه اللبنانيون.

بالطبع يدفع اللبنانيون البسطاء ومحبو الحياة ثمنًا غاليًا لمغامرات “حزب الله” واختطافه دولتهم، وكلما قرب وعيهم بالعدو الحقيقي للبنان ومشروعه قرب وقت الخلاص.

مشروع الحزب للبنان لم يعد سرًا، فإن أي تسويات دولية تتم في الجوار، يرى الحزب فصل لبنان عنها، أي لا عودة للبنان السابق، هو يستعد لكنتونات لبنانية قادمة، لا يعنيه هنا إلا الجماعة المنضوية تحت جناحه ولا يستسيغ غير البقاء لخدمة ممولة ورب نعمته، لا لبنان ولا اللبنانيون يشكلون أي هم للحزب. طبعًا لا بد من التفكير في الخطة باء في هذا الخضم المستطير، الخطة هي أن يسعى بجد لتجمع واسع من اللبنانيين المتضررين من شيخوخة الدولة، رجال دولة ومجموعات مدنية وأحزاب متضررة من مشروع كهذا في جبهة واحدة، ليس لها هدف إلا هدف (نزع السلاح) من أي مجموعة كانت واقتصاره على الجيش والقوى الأمنية. دون هذا، فأي حلول أخرى هي حلول عاجزة لإدامة الخلل الاقتصادي والسياسي القائم في لبنان. ما الذي يعتمد “حزب الله” عليه لحشد الأنصار؟.. يعتمد أولاً على الترهيب، وأنه قادر على تخويف جماعته وطائفته، وثانيًا على إرهاب الآخرين! كما يعتمد على استثمار انتهازيين سياسيين أو مؤجرين، إلا أن هذا السلاح لم يعد قادرًا على إكمال دوره، فهناك من الطائفة الشيعية اللبنانية من يتحسس الآن النتائج السلبية لأي انتماء للحزب، حتى لو كان نصيرًا عن بعد. لم يعد الحزب جاذبًا بعد تضييق نطاق حركته ومتابعة دقيقة لأنصاره في الأماكن التي تعودوا على العمل فيها في المنطقة، ومن جهة أخرى لم تعد إيران ذات رأي واحد فيما يقوم به الحزب، أما ثالثة الأثافي فهي الانكشاف الواسع لأكذوبة “مقاومة إسرائيل” التي انتهت إلى الأبد، في ظل الظروف الدولية والإقليمية الحالية، إسرائيل تستخدم “حزب الله” اليوم من أجل القضاء على ما تبقى من النسيج السوري، وكلما أمعن “حزب الله” في قتل السوريين، قدم خدمة أفضل لتل أبيب، يلطخ يده بدم كان يمكن أن يواجه إسرائيل في وقت قادم!

آخر الكلام:

لبنان الحضاري اختفى منذ سنوات، وظهر – بديلاً عنه – لبنان (الغلو)، ولأن الغلو ليس له مشترون كثر، فقد سُمّي مقاومة، استهزاءً بالعقول!