خضر حسان
تشكل “وثائق بنما” مرحلة مفصلية في تاريخ إخفاء حركة الأموال وأحجامها عبر العالم، وتفرض إعادة التفكير في طبيعة عمليات الإخفاء وما يمكن أن ينتج عنها، في ظل إرتفاع معدلات التهرب الضريبي وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والتي باتت سمة المرحلة الراهنة.
الجنّات الضريبية الموجودة حول العالم، هي عبارة عن دول متفاوتة الأحجام في المساحة وحجم الاستثمارات واتجاه الأموال إليها، تقدم خدمة “الإخفاء” بضريبة منخفضة جداً، وأحياناً بالمجّان. وللمفارقة، كان لبنان يُعتبر ملاذاً آمناً، وجنة تهرب إليها الأموال، وذلك قبل منتصف سبعينيات القرن الماضي، غير أن أزمة بنك “إنترا”، واندلاع الحرب الأهلية واستمرارها حتى مطلع التسعينيات، ودخول البلاد بعد تلك الفترة في دوامة الفساد السياسي وتراكم الديون وتراجع ثقة المودعين والمستثمرين بالإقتصاد…، أسباب أخرجت لبنان من نادي الدول “الآمنة”.
“الضجة” التي يحدثها التطرق إلى الجنّات الضريبية، والزلزال الذي تسببت به “وثائق بنما”، يدفع إلى التساؤل حول سبب لجوء الدول الى إعلان نفسها جنات ضريبية. والسبب يكمن بشكل أساسي في بحث الحكومات عن تمويل إقتصاداتها بطرق مربحة، فتنظر إلى رؤوس الأموال العالمية، فتجذبها نحو سوقها لتوظفها في الإستثمارات، وكلما دخلت الأموال أكثر، كلما انتعش الإقتصاد. والحكومات في هذه الحال، تأخذ حصتها عبر الضرائب المنخفضة على رؤوس الأموال، فضلاً عن الضرائب (وإن كانت منخفضة) التي تحصلها في خضم الدورة الإقتصادية التي تنتعش بوجود الاستثمارات وخلق فرص العمل وزيادة الاستهلاك… وما إلى ذلك. وفي الوقت عينه، “يحمي” أصحاب الأموال أموالهم من الضرائب وخصوصاً الضرائب المزدوجة في الوطن الأم وفي الدولة المضيفة، ويراكمون أرباحاً من الإستثمارات والفوائد.
لكن يبدو أن “إمبراطورية” الجنّات الضريبية قد باتت تحت المجهر، وبات في الإمكان بفعل جملة من التدابير والقوانين العالمية، والفضائح، “تدمير” هذه الإمبراطورية، أو هزّها. ويمكن القول إن قانونا الامتثال الضريبي الأميركي “فاتكا”، وقانون الإمتثال الضريبي على الحسابات العالمية، الأوروبي “غاتكا”، هما سلاحان نحو كسر السرية المصرفية في المنظور التكتيكي، ولهدم إمبراطورية الجنات الضريبية في المنظور الإستراتيجي، حيث تتمكن الدولة وفق القانونين من ملاحقة رؤوس أموال مواطنيها، وتحصيل حقوقها المالية وإفادة إقتصاداتها من تشغيل الأموال في السوق المحلية. و”وثائق بنما” تقدم فائدة بالمجّان لحكومات القانونين، على الأقل على المستوى المعنوي، إذا سلّمنا بأن الأسماء الواردة في الوثائق، تحمي نفسها من المساءلة بواسطة السلطة التي تملكها سياسياً ومالياً. لكن ذلك لا ينفي إمكانية تطور الأمر وصولاً إلى ملاحقات قضائية وتحصيلات للأموال ولضرائبها، إذ إن قانونا “فاتكا” (دخل حيز التطبيق) و”غاتكا”، يلزمان المواطنين بالتصريح عن أموالهم وحساباتهم المصرفية، في كل أنحاء العالم، عبر إبلاغ وزارة الخزانة الأميركية (فاتكا) بكشوفات حسابات العملاء الأميركيين أو الحائزين على “غرين كارد”، أو الذين تشك الولايات المتحدة بأنهم مقيمون على أراضيها.
سمعة لبنان
وإن كان لبنان لم يبلغ مرحلة المقارنة بأميركا أو بالدول الكبرى التي تتأثر بإخفاء أو إظهار أموال الجنّات الضريبية، إلا أن وجود لبنان في مصاف الجنّات سابقاً، ودخول سياسييه وكبار رجال الأعمال فيه، في قائمة المستفيدين من الجنّات، يعطيه الحق بتسليط الضوء عليه. وبذلك، فإن الأموال اللبنانية المهرّبة إلى الجنات الضريبية تحرم لبنان من الاستفادة المالية والإقتصادية. فعلى الصعيد المالي، تخسر الخزينة عائدات ضرائب تلك الأموال. ومن الناحية الإقتصادية، لا تستفيد السوق اللبنانية من تشغيل كم هائل من الأموال فيها. لكن مقاربة الخسارة والاستفادة خلال الحديث عن الجنات الضريبية وأموالها، يتعقد أكثر فأكثر، لأن المسألة تنتقل إلى مستوى الحديث عن السياسات الداخلية للدولة، وعن وضعها الإقتصادي والأمني، والخلل الحاصل في قطاعاتها الإنتاجية وبناها التحتية، والتي تُنفر رؤوس الأموال في حال أرادت الإستثمار في لبنان. وعليه، يمكن القول إن استفادة لبنان من أمواله الموجودة في الجنات الضريبية، لا تتم بمجرد الكشف عنها والعمل على “إستعادتها”. والسؤال هو هل أرضية لبنان جاهزة لإستثمار هذا الحجم من الأموال؟ الواقع السلبي يكشف أن تمتع لبنان بسمعة جيدة لم يكن بفضل إقتصاده وإمكانية إستثمار الأموال فيه، بل بسبب قانون السرية المصرفية ليس إلا، وهو ما بدأ يتفكك نوعاً ما بعد “فاتكا”، وقبلها تأثيرات الحرب الأهلية. ولو افترضنا أن الأموال عادت إلى لبنان، فحتماً ستتكدس في المصارف دون إستثمار يُذكر، ليستفيد منها فقط القطاع الخاص، وتستعملها الدولة في إنفاقها، بعد إستدانتها من المصارف. وفي الحالين، الاستفادة الإقتصادية الفعلية، غائبة.