«انبَطَح» لبنان أمام كل العالم منذ مطلع التسعينيات. حكوماته المتعاقبة خفضت الرسوم الجمركية على مراحل، تمهيداً للانضواء في منظومات تجارية أغرقت الأسواق المحلية بمنتجاتها. في البدء، وقّع لبنان اتفاقيات ثنائية مع الدول العربية، ثم أعقبها بتوقيع اتفاقية التيسير العربية التي بدأ العمل بها في 1998، وفي عام 2004 وقّع اتفاقية الشراكة الأوروبية. جاءت هذه الاتفاقيات، فيما كان لبنان يفاوض منذ 17 سنة للانضمام إلى المنظمة التجارية العالمية (WTO). جولات التفاوض كانت استسلامية وانهزامية، إذ كان آخرها في عام 2009 ولم تثمر سوى عرض قدّمه لبنان يتضمن المزيد والمزيد من خفض الرسوم الجمركية على السلع الواردة… العرض كان «قيد الدرس» لمدّة سبع سنوات، ولم تتحرّك المنظمة في اتجاه لبنان إلا في مطلع هذه السنة ورسمت جولة لها على المسؤولين، إلا أنها عادت تحمل ملفاً عن النتائج الكارثية لانضمام لبنان إلى اتفاقيتَي التيسير العربية والشراكة الأوروبية وأثرهما على ارتفاع العجز التجاري وعلى النمو الاقتصادي وعلى فرص العمل.
محمد وهبة
زيارة وفد منظمة التجارة العالمية إلى لبنان في 9 و10 آذار 2016 كانت مفاجئة. فهي تأتي بعد انقطاع عن التواصل دام سبع سنوات. وتأتي أيضاً في سياق الحديث الأوروبي عن دعم الدول التي تستضيف النازحين السوريين، لا بل إن المعلومات المتداولة بين المسؤولين عن هذا الملف تشير إلى مساعدة فرنسية كبيرة لإعادة إحياء مفاوضات انضمام لبنان إلى المنظمة.
إلا أنه بصرف النظر عن النيات ومآربها، فإن واقعة إحياء عملية انضمام لبنان إلى WTO تستدعي أصلاً الكثير من الحيطة والحذر، قياساً على أربعة أمور أساسية وضعها وزير الصناعة حسين الحاج حسن على طاولة اللقاء مع الوفد:
ــ ارتفاع عجز الميزان التجاري إلى أكثر من 17 مليار دولار في نهاية 2015. هذا العجز كان يبلغ 6.4 مليارات دولار في 1998 ويوازي 36% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو اليوم يبلغ 17 مليار دولار ويوازي 36.5% من الناتج المحلي الإجمالي. مستوى العجز كبير جداً وينعكس سلباً على النموّ الاقتصادي وعلى فرص العمل ويزيد معدلات الفقر… وهذا العجز هو بالعملة الأجنبية، أي أنه يستدعي استقطاب تحويلات من الخارج بالعملات الأجنبية لتغطيته.
ــ كان للبنان تجربتان مع اتفاقيات التجارة الحرّة؛ اتفاقية التيسير العربية، واتفاقية الشراكة الأوروبية. كلتا الاتفاقيتين كان له أثر سلبي على الميزان التجاري. فعلى سبيل المثال، كانت صادرات لبنان إلى الاتحاد الأوروبي تبلغ 200 مليون دولار قبل الاتفاقية، ثم ازدادت بقيمة 100 مليون دولار بعد الاتفاقية. في المقابل، كانت واردات أوروبا إلى لبنان تبلغ 3 مليارات دولار قبل الاتفاقية وارتفعت إلى 8.5 مليارات دولار بعد الاتفاقية. في المحصّلة، كانت نتيجة الاتفاقيات زيادة الواردات بطريقة دراماتيكية مقابل زيادة هزيلة للصادرات.
ــ هناك مشكلة كبيرة في أداء الدولة اللبنانية. توقيع الاتفاقيات وانضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية لم يكن مطروحاً بشكل جدّي، ولم يفاوض لبنان مع أي طرف ثان بما يخدم مصالحه. فلماذا يحقّ للدول أن تضع عوائق تقنية وتجارية على دخول السلع إلى أسواقها من بلدان محدّدة، فيما يُمنع على لبنان وضع مثل هذه العوائق؟
ــ كل ما نحصل عليه من أجوبة عن أسئلتنا هي إجابات عامة وعاطفية في معظم الأحيان تحت عنوان «للبنان مصلحة في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية». وبالتالي، على من يقول لنا إن مصلحتنا تكمن في الانضمام، أن يقول لنا كيف تتحقق هذه المصلحة، ولماذا هي مناسبة. نطلب من المنظمة أن تقدّم لنا سيناريو واضحاً لما ستكون عليه النتائج في الميزان التجاري خلال السنوات المقبلة والضمانات التي ستمنحها لنا مقابل هذا الانضمام.
يبدو للوهلة الأولى أن وزير الصناعة كان حاداً تجاه التعاطي مع منظمة التجارة العالمية، لا بل يؤخذ عليه أنه قدّم ملاحظات على آليات أداء المنظمة وطرق عملها وهيمنة الكبار على الصغار، من دون أن يبلور تصوّراً واضحاً لموقف لبنان ومطالبه. لكن الحاج حسن يعتقد أن الأمر أبعد من تقديم تصوّر واضح واقتراح للتفاوض عليه. «نحن ما زلنا في مرحلة نقاش، ولم نصل إلى مرحلة التفاوض حتى نقدّم أي تصوّر. لا يمكن تقديم أي عرض أو اقتراح من دون تقييم للاتفاقيات الموقعة سابقاً، وخصوصاً اتفاقية الشراكة الأوروبية. وجّهنا بضعة أسئلة عن حجم العوائق الموضوعة من الدول المنضوية في إطار منظمة التجارة العالمية بعدما تبيّن لنا أن كل دولة تضع العوائق التي تناسب مصالحها وهي عوائق تقنية وتجارية واسعة. لذا، على ضوء دراسة التقييم التي نجريها لاتفاقية الشراكة الأوروبية وأثرها على الاقتصاد اللبناني، يمكن أن نرسم مساراً أوضح»، يقول الحاج حسن لـ«الأخبار». موقف وزارة الصناعة قابله موقف مماثل من وزارة الاقتصاد والتجارة.
فهذه الأخيرة تجري اليوم تقييماً لنتائج اتفاقية التيسير العربية قبل أن تعدّل العرض الذي قدّمه لبنان في عام 2009 لمنظمة التجارة العالمية والذي يتضمن خفض الرسوم الجمركية، علماً بأن هذه الرسوم منخفضة أصلاً بسبب الاتفاقيات الموقعة سابقاً أو الخفوضات التي نجمت عن الاتفاقيات الثنائية مع الدول العربية أو اتفاقية التيسير العربية أو القرارات الحكومية التي استبقت اتفاقية الشراكة الأوروبية. وقد تبيّن أن الصادرات إلى الدول العربية لا تزال تراوح بين 40% و45% من مجمل الصادرات اللبنانية كما كانت عليه في الفترة التي سبقت توقيع اتفاقية التيسير العربية. ويضاف إلى ذلك مجموعة كبيرة من العوائق التي تضعها الدول العربية على النحو الآتي:
ــ المواصفات التي تضعها الدول العربية على دخول السلع اللبنانية قديمة وغير واضحة وغير متوافقة مع المواصفات الدولية.
ــ بعض الدول العربية أوقفت العمل بشهادات المطابقة، وهو ما انعكس سلباً على الصادرات اللبنانية.
ــ تستوفي بعض الدول العربية رسوماً جمركية على بعض المنتجات بشكل يتعارض مع اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية.
ــ تطبق بعض الدول العربية رسوم خدمات مبالغاً فيها.
ــ تضع بعض الدول العربية عوائق إدارية وتفرض مساراً بيروقراطياً.
ــ تلقت وزارة الاقتصاد شكاوى من المنتجين اللبنانيين عن إخضاع بعض السلع الزراعية في بعض الدول العربية لإجازة استيراد تؤدي غرضاً أساسياً وهو تطبيق روزنامة زراعية بشكل معلن.
ــ تتشدّد أجهزة الجمارك العربية في قبول شهادات المنشأ اللبنانية التي حصلت عليها السلع المنتجة في لبنان، لا بل أضافت بعض الدول شروطاً جديدة غير منصوص عليها في الآلية المعتمدة لإصدار شهادات المنشأ.
ــ بعض الدول العربية وضعت سقوفاً للتحويلات المالية إلى الخارج، ما أعاق حصول المصدرين اللبنانيين على ثمن بضائعهم، وبالتالي خرق الأمر بنود اتفاقية التيسير العربية فلم يعد هناك تسهيل لانسياب البضائع والسلع والخدمات المتعلقة بها.
أمام هذا المشهد، تصبح تحديات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية كبيرة. فالهدف المعلن للمنظمة هو خفض القيود على الاستيراد، باستثناء تلك المفروضة لحماية الصحة أو البيئة أو النظام العام أو الأمن القومي، فضلاً عن إقرار المنضوين في المنظمة بمبدأ عدم التمييز بين الدول وعدم التمييز بين السلع الوطنية والسلع الأجنبية. هذا يعني أن متطلبات الانضمام تستوجب فتح الحدود وتشريعها أمام السلع المنتجة خارج لبنان، وبالتالي فإن الصناعة المحلية ستواجه المزيد من النتائج السلبية لأسباب عديدة؛ أبرزها ارتفاع كلفة الإنتاج ما يؤدي إلى فقدان ما تبقى من قدرتها التنافسية في الأسواق المحلية والخارجية أيضاً.
وفي موازاة ذلك، بإمكان كل بلد أن يقوم باستثناءات تتعلق بتدابير وقائية ناتجة من زيادة غير مبررة في الواردات، وتدابير مكافحة الإغراق، وفرض رسم تعويضي لمواجهة الدعم الذي تقدمه الدول لصناعاتها، وفرض قيود على الواردات لحماية الوضع المالي الخارجي، وتقديم مساعدات حكومية من أجل التنمية الاقتصادية وفرض قيود على الواردات لحماية الصناعة الوليدة.