كتبت لينا فخر الدين في صحيفة “السفير”: وهكذا عاد ميشال سماحة إلى السّجن، بعد أن خرج من محكمة التمييز موقوفاً، كما دخلها للمرّة الأولى قبل إخلاء سبيله. العائلة كلّها بقيت داخل القاعة، تنتحب مودّعةً من جديد.
الخروج الأخير لا يشبه سواه. هذه المرّة، سينتظر الموقوف قرار محكمة التمييز العسكريّة للنّطق بالعقوبة المبرمة. وبعدها، سيعود ـ على الأرجح ـ إلى زنزانته. في الريحانيّة أو رومية، لا فرق، المهمّ أنّه لن يكون طليقاً بعد اليوم. تماماً كما لم يعُد بمقدوره تحضير أوراقه وملفّاته ليرمي ما في جعبته خلال الجلسات العلنيّة. بعد الأمس، لا مزيد من الكلام أو مراجعة المحاضر ومسلسل الاستجواب الذي امتدّ أكثر من عامين.
ومع ذلك، يكاد الملفّ أن يُقفل، من دون أن يظهر ظلّ ميلاد كفوري في أروقة المحكمة العسكريّة. الغائب ذو الملائكة الحاضرة دوماً الذي أوقع بسماحة وأفشى أسراره، يحظى بحياةٍ سريّة ومرافقين أمنيين، وفق ما أشار محامو سماحة الذين فشلوا في إمكانيّة الاستماع إلى شهادته بعدما ردّت هيئة المحكمة طلباتهم الثلاثة: الاستماع إلى كفوري ومنظّمي المحضر وخبير متفجّرات.
في ما كان سماحة يودّ، كما قال، أن يُواجَه بكفوري. أن يكذّبه. أن يقول أي شيء. المهمّ أن يظهر “شبح المعلومات” ويمنح حقوقه كاملةً في الدّفاع عن نفسه، إلا أن الحماية القانونيّة التي تظلّله منعت ذلك.
لذلك، انتهى كلّ شيء ووصل المسار القانوني إلى خواتيمه عندما طلب النائب العام التمييزي القاضي شربل أبو سمرا “تطبيق موادّ الاتهام وتوقيع العقوبة المنصوص عليها في تلك المواد”.
صار الجميع ينتظر الحكم. 7 سنوات أو 10 أو أكثر من ذلك حتى. لا أحد يعلم، فأعضاء هيئة “التمييز” بدأوا مداولاتهم التي ستأخذ ربّما يومين، كما أكّد رئيس المحكمة طاني لطّوف قبل رفع الجلسة، وذلك بحسب القانون الذي يُعطي المحكمة إصدار حكمها ضمن مهلة الشّهرين.
وبالتالي، فقد قطعت “التمييز” الشكّ، ولو شكلاً، بأنّ “حكمها جاهز ولا يحتاج إلا للتلاوة بعد انتهاء المرافعات بساعاتٍ قليلة”، بحسب ما يقول فريق سماحة القانونيّ.
ولذلك، أصرّ لطوف أن يمنح الوزير السّابق وقتاً طويلاً ليقول كلمته الأخيرة، فكان الموقوف ـ كما في كلّ الجلسات ـ غير زملائه الآخرين الذين يقفون وحدهم ومن دون سائر أفراد عائلتهم على القوس ويكتفون بطلب “الشفقة والرّحمة”.
استعاض ناقل المتفجّرات من سوريا لاستخدامها داخل الأراضي اللبنانيّة عن الشفقة والرّحمة، بـ “مرافعةٍ سياسيّة”، كاد أن ينسى فيها أنه سيُساق مخفوراً إلى سجنه، وربّما تخيّل أنّه مرشّح للانتخابات النيابيّة. فعاد الرّجل إلى تقمّص شخصيته التي كان عليها قبل العام 2012: وزيرٌ سابق يجول ويصول بين العواصم لصياغة التسويات وإيصال الرسائل الموقّعة من النّظام السوريّ.
هذا ما كان ينقص الجلسة التي اكتملت فصولها بعمليّات “تطهير” قام بها وكلاء الدّفاع عن سماحة ولا سيّما المحامي صخر الهاشم الذي تكفّل بأن تكون مداخلته الشفهيّة أشبه بمراجعة للإطار العام الذي رافق القضيّة من مواقف سياسيّة، ليخرج منها الموقوف كـ “مولود جديد” من دون ذنوب.
وأكثر من ذلك، فقد ارتأت المحامية رنا عازوري أن تؤكّد أن موكّلها قام بـ “فعل بسيط” هو نقل المتفجّرات الذي يجب أن يحاكم به بموجب قانون الأسلحة، أي ستة أشهر وغرامة!
قام المحامون بواجباتهم حتى النهاية، وصار سماحة أشبه بـ “شاهد ما شافش حاجة”، أو أقلّه “ضحيّة”، كما ردّد المحامون الثلاثة. هكذا، طلب الهاشم من موكلّه أن يقف. “أستاذ ميشال إذا فيك توقف”، تبعها بأسئلة كانت خلاصتها: “هل تصدّق المحكمة أن هذا الوجه البريء هو إرهابي؟ هو أشبه بملاك”. لم يقلها الهاشم بهذا الوضوح، إلا أنّه قال إنّ سماحة “هو الضحيّة في وجه الجلّاد (كفوري/ شعبة المعلومات)”.
ثمّ وجّه العديد من الأسئلة التي فهمها البعض بسذاجة: “هل فعلاً هو إرهابي؟ هل نشأته تدلّ على أنّه إرهابي؟ هل إفادته تدلّ على أنّه يمارس الإرهاب؟ هل تاريخه الحافل بتحرير مخطوفين يبيّن أنّه إرهابي؟”.
ولم يكتف الهاشم بهذا القدر لإثبات البراءة، وإنّما ذهب أبعد من ذلك، ليشير إلى “أكبر دليل” على البراءة أنّه كان بإمكان موكّله عدم المثول أمام المحكمة، ولكنّه فعل!
بالنسبة للهاشم، فإنّ هذه القضية لا تستأهل هذا الكمّ الهائل من الإعلام. وإنّما هدف الاهتمام هو “إلهاء النّاس عمّا يجري من صفقات وفساد وسرقات وتدفّق للأسلحة”.
“مَن هو الرّجل الخارق؟”
في الجهة المقابلة، أطلّ سماحة بوجهه من خلف القفص. يداه المرتجفتان لم تُحكما السيطرة على الأوراق البيضاء كما كان يفعل حينما كان يلتقط ثمرة الصبير. فوقعت الأوراق أرضاً قبل أن يلتقطها ليعود إلى وقفته الشامخة، ويبدأ بخطابه السياسيّ.
مَن هو ميشال سماحة؟ هذا السؤال الذي سأله المحامي صخر الهاشم في مرافعته، ثمّ أجاب عنه بفائضٍ من الوطنيّة عن الرّجل الذي كان “منقذاً للنّاس”. يتذكّر الهاشم محطات من حياته، حينما كان يدخل إلى أحد المطاعم فيقترب منه أحدهم طالباً إرسال السّلام إلى “معاليه، لأنّه حرّر ابني الذي كان مخطوفاً”.
إجابة الهاشم عن مكانة موكّله، استتبعها سماحة نفسه. موقوفٌ يقف في القفض ليعرّف بنفسه بأنّه كان “رجل إحياء السّلام”. أيّ سلام؟ يجيب سماحة من دون أن يُسأل حتى، عن مشاركته في مفاوضات تحرير عدد من اللبنانيين أيّام المحن والتحديّات الأمنيّة وعن عضويته في لجان نبذ العنف.
يريد صاحب مقولة “الثقة. الثقة. الثقة” أن ينسى مَن سمع جملته بالصوت والصورة: “إذا طلعو بدربنا شيلوهن”، رداً على “عرض” ميلاد كفوري بقتل مشايخ ونواب أثناء استهداف إفطاراتٍ في عكّار، تحدّث عن قناعته في وحدة لبنان وسلمه الأهلي ودوره في بناء الجسور بين اللبنانيين، ثم ما لبث أن نزل عن الجسر “لأسبح في وجه تيارات التطرّف في المناطق. أنا لم أتحدّث يوماً عن الطائفية، بل كنت أسمّي ذلك عائلات روحيّة”.
ومن العام إلى الخاص انتقل سماحة ليؤكّد عدم طائفيته بنسيج عائلته المؤلفة من العديد من الأشخاص المنتمين إلى أديان وطوائف عدّة.
وبرغم كلّ هذا الخطاب المنمّق والفائض بالمشاعر الوطنيّة الجياشة، لا جديد في الكلام. سماحة هو نفسه. ما زال مؤمناً أنّ “مساره السياسي والوطني كان هو المستهدَف”. الوزير السّابق الذي “كان يجد حلاً لكلّ إشكال سياسي ويؤلّف حكومات”، وفق ما قال، متأكّد بأنّه وقع ضحيّة مكيدة دبّرها جهاز أمني لبناني. النّدم الذي تلاه على مسامع الحاضرين منذ أشهر قليلة، لم يجد له منفذاً، فغاب عن “خطاب الوداع”.
في مداخلته كلّها، كان سماحة يحاول أن يثبت أنّه أقرب إلى “الرّجل الخارق”، كما حاول توصيف نفسه: “استُهدفت لأنني نجحت في خرق جدارات في الغرب والمجموعة الأوروبيّة حول ما يجري في لبنان وسوريا. وشكّلت خطراً على المشاريع الكبرى. ووظّفت علاقاتي لخدمة وطني وعروبتي”.
وهو ليس خارقاً وحسب، بل إنّ الموقوف الذي لم يستطع أن يتنبأ بمصيره ولا أن يستشفّ أنّ الرّجل الذي كان يتردّد إلى بيته ومكتبه وأسرّ له عن ضرورة القيام بأعمال تفخيخ على الحدود هو ميلاد كفوري “المخبر والمحرّض وعميل الجهاز الأمني الذي أوقع بي”، وفّر تنبؤاته لأشياء أكبر من ذلك بكثير. إذ أكّد، أمس، أنّ “كلّ الرؤى التي حملتها استناداً إلى معلومات وتحليلات وخوفي على الجيش وسيادة الدّولة على الحدود، كانت صحيحة وتحقّقت بعد أيّام من توقيفي”.
محاكمة “على الكيلو”!
بدا سماحة حانقاً على “الدواعش” الذين يخرجون من السّجون وعلى زعماء المحاور في طرابلس الذين خرج بعضهم إثر انتهاء محكوميتهم التي تراوحت بين العامين والنّصف والثلاثة أعوام. ربّما مشهد خروج سعد المصري الذي حظي بـ “زفة” داخل طرابلس، أثارَ حفيظة الرّجل، وبدا كما لو أنّه يسأل نفسه: “أنا الوزير السّابق أحاكم بأربع سنوات ونصف السنة، والمصري بسنتين أقلّ. كيف ذلك؟ أنا لم أفعل شيئاً سوى نقل حفنةٍ من المتفجّرات”.
هذا السؤال ليس من وحي الخيال، وإنّما له أساس من الصّحة. إذ قارن سماحة فعلاً بين صندوق سيارته الذي حُمّل بالمتفجّرات والذخائر، وبين باخرة “لطف الله 2” و32 باخرة أخرى دخلت إلى طرابلس، متسائلاً: “ماذا يمكن أن يحتويه صندوق سيارة؟”.
إذاً، نوعيّة حمولة السيّارة أو الباخرة ليست مهمّة ولا الهدف أيضاً. المهمّ هو الكميّة، بالنسبة له. يريد الرّجل محاكمةً عادلة “على الكيلو”!
ومع أن سماحة حاول تبرئة نفسه من “الحمولة”، إلا أن محاميه لم يستطع أن يفعل، إذ أكّد الهاشم في مرافعته أن موكله ارتكب فعلاً واحداً ثابتاً هو نقل المتفجّرات “تحت تأثير استدراج كفوري”.
في حين ركّز وكيلا الدفاع عن سماحة المحاميان شهيد الهاشم ورنا عازوري على نقــطة عدم الاستدراج بالقانون، بعد أن قدّما في مذكرتهما الخطيّة 15 اجتهاداً صادراً عن محاكم لبنانيّة وأوروبيّة عن موضوع الاستدراج.
واتّسمت مرافعة عازوري بأنّها احترافيّة. أصغر وكلاء الدّفاع عن سماحة. بدت مقنعة، بعد أن تعمّقت في النقاط القانونيّة، وفي تسلسل الأحداث حتى تؤكّد أن كفوري لم يكن مخبراً منذ 20 تموز 2012 فقط، بل قبل ذلك، شارحةً كيف نُظّم محضر 8 آب 2012 وأظهر “كذب المنظمين، أو أقلّه خطأهم، بهدف حماية المخبر، وإلا كان اليوم شريكاً في التّهمة مع سماحة”. وأكّدت أنّ “كفوري خلق مشروعاً جرمياً لكي يستنبط الجريمة نفسها، وبهذه الحالة يكون هو المحرّض بزرع مشروع لم يكن موجوداً أصلاً عند الضحيّة”.
وفصّلت عازوري المواد الجرميّة المسندة إلى سماحة، لتلفت الانتباه إلى أنّ الموقوف متّهم بإنشاء جمعيّة أشرار “برغم أنّ عناصر المجموعة هم كفوري وعناصر مجموعته غير الموجودين”، وبدسّ الدسائس “مع أنّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة برّأه من ذلك”، مشيرةً في الوقت عينه إلى براءته من المادة 274 (محاولة القتل) “لأنّ المحاولة غير موجودة أصلاً”.
كما طلب المحامون الثلاثة أن لا تتأثر محكمة التمييز بالحملات التي تدار خارجاً للضغط عليها “لأنها هي النخبة وأهل العلم والحكمة”.
هكذا، انتهت الجلسة. أحضر سماحة معه ثيابه وهو على يقين أنّه عائد إلى الزنزانة.. حتى متى؟ لا أحد يعلم.