لا يكاد العالم ينتهي من فضيحة معلوماتية تلف أرجاءه حتى يدخل في دوّامة فضيحة اُخرى تطحن سمعة ساسة ومؤسسات يُفترض أنها صانعة القرار الاقتصادي والسياسي والقيّمة على إرساء وتنفيذ خطط إنقاذ الدول والعالم من المصائب والكوارث التي تصيبها في المجالات كافة.
بعد «ويكيليكس» و»سنودن» و»الفيفا»، بدأت هذا الأسبوع شخصيات وشركات ودول تترنّح على وقع تسريبات «أوراق بنما» المتطايرة في كل اتجاه، بعدما كشفت النقاب عن تورّط مسؤولين سياسيين كبار ومشاهير من عالم المال والاقتصاد والرياضة في عمليات تهرّب ضريبي على نطاق واسع.
الضغط الدولي المتزايد الذي سببه الكشف عن فضيحة «أوراق بنما« المدوية حول التهرب الضريبي التي شملت شخصيات بارزة في العالم، دفع بالرئيس البنمي خوان كارلوس فاريلا الى إعلان رغبته في التفاوض في محاولة لتحسين صورة البلاد مجددا. ووجه نداء الى دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية «لكي تعود الى طاولة المفاوضات، للسعي الى اتفاق وألا نستخدم الاطار الحالي لتشويه صورة بنما لأن هذا الامر لن نقبله«، وذلك بعدما أماطت الصحف الاعضاء في «الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين« اللثام عن أسماء زبائن مكتب المحاماة البنمي «موساك فونسيكا«، بعد وصول 11,5 مليون وثيقة الى وسائل الاعلام متسببة بفضيحة مدوية في العالم.
نائبة الرئيس البنمي وزيرة الخارجية ايزابيل دي سانت مالو، قالت ان بلادها ستعمق الحوار مع منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بشأن تبادل البيانات الضريبية، إثر محادثة هاتفية أجرتها مع الامين العام للمنظمة أنغيل غوريا، وسط مطالبة للسلطات البنمية بتعديل قوانيها التي تعتبر مؤاتية لشركات «الأوفشور« في وقت ينحو فيه العالم نحو المزيد من الشفافية في مجال الضرائب، علماً أن تأسيس أو امتلاك شركة اوفشور ليس مخالفا للقانون بذاته، لكنه يثير شبهات بالتهرّب الضريبي وصولاً إلى الفساد.
مع ذلك، يقول رئيس الشركة القانونية رامون فونسيكا إن شركته ضحية لعملية قرصنة إلكترونية من الخارج، وإنه قدم شكوى لمكتب المدعي العام، مؤكداً أنها لم تنتهك أي قوانين، ولم تتخلص مطلقا من أي وثائق أو تساعد في أي عملية تهرب من الضرائب أو غسل أموال.
الولايات المتحدة
من واشنطن، رأى الرئيس الاميركي باراك اوباما ان التسريبات التي اشارت الى ان عددا من السياسيين ورجال الاعمال الكبار في انحاء العالم اخفوا اموالا في شركات وهمية يظهر ان التهرب الضريبي مشكلة عالمية.
واعتبر أن الاثرياء من افراد وشركات «يستغلون انظمتهم« من خلال استخدام الملاذات الضريبية التي لا يمكن لدافع الضرائب العادي استخدامها. واضاف ان الشركات الاميركية التي تندمج مع شركات اجنبية لمجرد خفض الضرائب «لا تدفع حصتها المفروضة« من الضرائب مقابل الاستفادة من الاقتصاد الاميركي.
وأتى تصريح اوباما غداة تشديد وزارة الخزانة القوانين ضد التهرب الضريبي من خلال دمج الشركات الاميركية مع شركات اجنبية لنقل عناوينها الرسمية لتصبح اوفشور (ولكن ليس عملياتها الاميركية) لتجنب دفع ضرائب في الولايات المتحدة.
وبالفعل، أعلنت شركتا فايزر واليرغان لصناعة الادوية ان الاندماج بينهما لن يحدث بسبب الاجراءات الجديدة التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد دمج الشركات لاسباب ضريبية. واكد بيانان منفصلان للشركتين ان التخلي عن هذا الاندماج تقرر «بالاتفاق« بينهما. وكان من شان الاندماج وحجمه 160 مليار دولار ان يسفر عن قيام اكبر شركة لتصنيع الادوية في العالم متخطيا «نوفارتيس« السويسرية.
لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية قالت إنها ستراجع «أوراق بنما« المسربة التي تكشف عن آلاف من حسابات المصارف السرية تحسبا لأي انتهاكات لقانون مناهضة الرشوة، فيما يرى مسؤولو صناعة المال إن غسل الأموال خط أحمر يشير إلى نطاق واسع من الممارسات غير القانونية وأبرزها تجارة المخدرات وتمويل شبكة الإرهاب. كما أن له دورا ليس معروفا بشكل كبير لكنه خطير فيما يتعلق بعدد من حالات الرشوة والفساد بين مسؤولين وشركات في القطاع العام الخاضع لإشراف لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية.
وطغت قضية «اوراق بنما« الخميس على الحملة الانتخابية الاميركية حيث اتهم الديموقراطي بيرني ساندرز منافسته هيلاري كلينتون بمسؤولية ما في هذه القضية، بذريعة أنها دعمت قبل 5 سنوات اتفاق التبادل الحر بين بنما والولايات المتحدة الذي أضاف «جعل من السهل جدا على الاثرياء والشركات في كل العالم تحاشي دفع ضرائب متوجبه عليهم لبلادهم«.
أميركا اللاتينية
في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، فتحت النيابة العامة في الارجنتين تحقيقا حول التعاملات المالية للرئيس موريسيو ماكري عبر شركتي اوفشور بحسب ما كشفت فضيحة «اوراق بنما«. وقال النائب الفدرالي فيدريكو ديلاغو انه طلب من قاض معلومات من هيئة الضرائب الوطنية ومكتب مكافحة الفساد لتحديد ما اذا كان ماكري تعمد بنية سيئة عدم الكشف عن كامل المعلومات في اعلانه عن اصوله، وهو احد الامور المطلوبة من المسؤولين الحكوميين.
النائبة المعارضة نورمان مارتينيز تقدمت بشكوى ضد الرئيس بتهمة التهرب الضريبي، وهي تأمل في أن يحقق القضاء بدور ماكري في شركتي أوفشور هما «كاغيموشا« و«فليغ ترايدينغ ليمتد«، فيما يؤكد الرئيس انه لم يخف اي اموال يملكها لدى تصريحه عن ثروته الملزم بتقديمه بصفته مسؤولا حكوميا، وذلك اثر كشف فضيحة «اوراق بنما« انه كان مديرا لشركتي اوفشور.
وفي البيرو، ورد اسم الكاتب البيروفي الحائز جائزة نوبل للاداب ماريو فارغاس يوسا، لكنه اكد انه لم يكن على علم يوما بامتلاكه حسابا في اوفشور باسمه وباسم زوجته.
أوروبا
في لندن، أقر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأنه كانت له حصة بقيمة 30 الف جنيه استرليني في صندوق اوفشور انشأه والده، بعد ايام من الضغوط التي واجهها اثر الكشف عن «اوراق« بنما، مضيفاً «لقد بعت جميع الحصص في 2010 لأنني فكرت انني لو اصبحت رئيسا للوزراء فلا اريد من احد ان يقول ان لدي اجندات اُخرى ومصالح شخصية«.
هيئة تنظيم القطاع المالي في بريطانيا طلبت من 20 مصرفاً وشركات مالية اُخرى إجراء مراجعة لمعرفة ما إذا كانت تربطها أي علاقة بمكتب المحاماة البنمي موساك فونسيكا، علماً أنه بحسب الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين سجل أكثر من 500 مصرف ووحدات تابعة وفروع نحو 15 ألفا و600 شركة وهمية لدى موساك فونسيكا. ويقول الاتحاد إن مصرف (إتش.إس.بي.سي) أكبر مصرف بريطاني وشركات تابعة له أنشأوا أكثر من 2300 شركة من هذا النوع.
في خطوة فرنسية مماثلة، طلبت هيئة تنظيم القطاع المالي من المصارف تقديم معلومات إضافية عن أنشطتها في الدول التي تعتبر ملاذات ضريبية«. وتحدثت صحيفة «لوموند« الفرنسية بالاستناد الى «اوراق بنما« بالتفصيل عن «نظام اوفشور متطور« اقامه مقربون من رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبن، ومنظومة مالية معقدة حول حسابات المساعد السابق لوالدها مؤسس الحزب اليميني المتطرف، جان-ماري لوبن. وزير المالية ميشال سابان أعلن ان فرنسا ستعيد ادراج بنما على قائمة الدول والمناطق التي لا تتعاون في المجال الضريبي بعد تسريبات «اوراق بنما«.
في سويسرا، فتح المدعي العام في جنيف أوليفييه غورنو تحقيقا جنائيا فيما يتعلق بأوراق بنما التي كشفت عن استخدام شركات بالخارج منها شركات كثيرة أسسها محامون ومؤسسات مالية في المدينة السويسرية.
وفي النمسا، اعلن مايكل غراهامر، مدير عام «ايبو فورارلبرغ« العام الصغير ورد اسمه ضمن «اوراق بنما« حول فضيحة التهرب الضريبي بسبب علاقاته مع رجل الاعمال الروسي غينادي تيمشنكو، استقالته مؤكدا في الوقت نفسه ان المصرف لم يرتكب اية مخالفة.
وأبرز مسؤول اطاحت به هذه الفضيحة حتى الان هو رئيس وزراء ايسلندا سيغموندور ديفيد غونلاغسون الذي تنحى من منصبه تحت ضغط الشارع الذي استنكر توليه ادارة شركة تتخذ مقرا لها في جزر فيرجن البريطانية.
على مستوى المؤسسات، أوردت صحيفة لوموند ان مصرف «اتش.اس.بي.سي« البريطاني ومصرفي «يو.بي.اس« و«كريدي سويس« السويسريين تأتي في مقدم المصارف التي انشات اكبر عدد من شركات اوفشور عبر مكتب محاماة موساك فونسيكا المتصل بفضيحة «اوراق بنما«. وحل بعدها مصرف «سوسيتيه جنرال« الفرنسي الذي قالت الصحيفة الفرنسية انه يضم 979 شركة، خلف البريطاني اتش اس بي سي (2300 شركة) والسويسريين يو.بي.اس (1100 شركة) وكريدي سويس (1105 شركات).
روسيا وأوكرانيا
في المقابل، ومن روسيا، نفى الرئيس فلاديمير بوتين وجود اي «ادلة تثبت فساد« دائرة المقربين منه المتهمة حسب «اوراق بنما« باخفاء نحو ملياري دولار في ملاذات ضريبية. وقال في منتدى عام «أي أدلة فساد؟ ليس هناك اي دليل«، مكررا اتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراء هذا التحقيق الصحافي الواسع الذي يكشف نظاما للتهرب الضريبي تورط فيه مسؤولون سياسيون واقتصاديون كبار في العالم.
المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قال ان الرئيس الروسي كان هو «المستهدف الرئيس« للتحقيق الدولي، منتقدا وثائق مليئة بـ«الفبركات« و«التزوير« بهدف «زعزعة استقرار« روسيا.
وفي كييف، قالت وحدة إدارة الثروات في مجموعة روتشيلد إنها أنشأت صندوقا لإدارة أصول الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو بما يتفق مع المعايير الدولية لإدارة أصول السياسيين الذين لا يزالون في مناصبهم، وذلك بعدما اضطر بوروشينكو إلى أن يدافع عن نفسه مرارا أمام اتهامات بمحاولة التهرب الضريبي بعدما أظهرت «أوراق بنما« أنه أودع أصول شركة روشين للحلويات التي يمتلكها في صندوق للمعاملات الخارجية (أوفشور).
الكيان الصهيوني
كان لافتاً في فلسطين المحتلة، إعلان مصلحة الضرائب في كيان الاحتلال أنها بدأت التدقيق في ملفات كشفتها فضيحة «اوراق بنما«، والتي ظهرت فيها بحسب وسائل الاعلام الاسرائيلية اسماء 600 شركة اسرائيلية واثنين من اهم مصارف البلاد.
وذكرت وسائل الاعلام الاسرائيلية ان اسماء 600 شركة اسرائيلية واثنين من المصارف الثلاث الرئيسة في اسرائيل، بنك لئومي وبنك هبوعليم، وردت في الوثائق، بالاضافة الى اسماء 850 مساهما كاصحاب حسابات مصرفية في دول تعتبر ملاذات ضريبية بهدف التهرب من دفع الضرائب او لتبييض اموال. ومن الاسماء التي وردت في «اوراق بنما« رجل الاعمال الاسرائيلي ايدان اوفير ودوف فاسيغلاس الذي شغل منصب مدير مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ارييل شارون.
الإمارات والجزائر
تبيّن من الوثائق أن رئيس الامارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان يمتلك امبراطورية عقارية بقيمة 1,5 مليار يورو في لندن اشتراها عبر شركات «اوفشور« انشأها له مكتب محاماة موساك فونسيكا، في قلب فضيحة «اوراق بنما«، وفق صحيفة « الغارديان«.
في الجزائر، تساءلت الصحافة عن اسباب الصمت الحكومي ازاء التحقيق المنشور حول «اوراق بنما« والذي شمل وزير الصناعة والمناجم عبد السلام بوشوارب، بعدما تبين أنه يملك شركة في بنما هي «رويال ارايفل كورب«، وقد انشئت في نيسان 2015 من خلال خدمات شركة تنشط في تسجيل شركات اوفشور، وكانت مهمتها «ادارة محفظة من الاصول العقارية بقيمة 700 الف يورو مملوكة حاليا« من الوزير.
وفي باكستان، أعلن رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف تشكيل لجنة للتحقيق في المزاعم التي وردت في ما يعرف بـ«اوراق بنما« التي تربط عائلته بسلسلة من شركات الاوفشور. وتكشف الوثائق ان عددا من اكثر الاشخاص نفوذا في العالم هرّبوا اموالهم الى الخارج، وتشير الى تورط نجلي شريف حسن وحسين.
وفي تايوان، قال محامي شقيق رئيسة تايوان المنتخبة تساي إينغ وين إن موكله الذي ورد اسمه في وثائق بنما باعتباره أسس شركة معاملات خارجية (أوفشور) في عام 2008 لم يرتكب أي شيء مخالف للقانون.
في كل الأحوال، فتحت هذه الوثائق الباب واسعاً أمام سلسلة من التحقيقات التي يمكن أن تصل إلى نتيجة في دول تحتكم فعلاً إلى المؤسسات والقوانين والدساتير، لكنها لن تبلغ مراميها بطبيعة الحال في الدول التي يستحكم فيها الفساد والمحسوبيات وتغليب مصالح المسؤولين والجهات النافذة على حساب الشعوب المقهورة.