محمد العريان*
كل ما احتاجه الأمر هو الكلام المطمئن الذي قدمته رئيسة “الاحتياطي الفيدرالي” الأسبوع الماضي أمام المشاركين في السوق، الذين يعلو صوتهم، مطالبين بتغيير الرواية التي أظهرت البنك المركزي الأمريكي بصورة تدل على أنه “غير متناسق” و”مربك”. مع ذلك، القضايا الأساسية حقيقية ولن تزول في أي وقت قريب. هذه القضايا لا تشير إلى أخطاء “الاحتياطي الفيدرالي” بقدر ما هي دلالة على السياق الذي يعمل فيه والاعتماد المتبادل غير الصحي للأسواق.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية تذبذبت إشارات سياسة “الاحتياطي الفيدرالي” بشكل واضح عدة مرات. بعد أن بدأ دورة متشددة من خلال رفع أسعار الفائدة الأمريكية في كانون الأول (ديسمبر) للمرة الأولى خلال نحو عشر سنوات، أشارت تفسيرات الأسواق لـ “النقاط الزرقاء” التي نشرها مسؤولو “الاحتياطي الفيدرالي” (بشكل لا ينصح به في رأيي) للتعبير عن المسارات الفردية الخاصة بالسياسة المستقبلية، إلى أربعة ارتفاعات إضافية في عام 2016، تليها أربعة أخرى في عام 2017.
ولأن هذا يمثل تشديدا يفوق ما كان يتوقعه المشاركون في الأسواق، تبع ذلك حدوث تقلبات واضحة مصحوبة بعمليات بيع مقلقة للأصول الخطرة. في الوقت نفسه، تكثفت مشاعر القلق إزاء الضعف الاقتصادي في الخارج، إلى درجة جعلت بعض الناس يشعرون بالقلق حيال الركود في الولايات المتحدة.
ردا على ذلك، اعتمد “الاحتياطي الفيدرالي” لهجة أكثر اعتدالا بشكل ملحوظ داخل الاجتماعات. تصريحات التهدئة من قبل عديد من المسؤولين انتهت باجتماع لسياسة عمل على تنقيح ومراجعة “النقاط الزرقاء” من أجل الإشارة إلى إمكانية حدوث ارتفاعين فقط هذا العام.
إشارات “الاحتياطي الفيدرالي”، الذي شعر بالارتياح لسرعة استعادة أسعار الأصول المالية “بما في ذلك الارتفاع بنسبة 10 في المائة في مؤشرات الأسهم الأمريكية والمزيد في الخارج” وللاستقرار الاقتصادي العالمي نسبيا، تغيرت مرة أخرى، وأشار بعض المسؤولين حتى إلى أن الارتفاع قد يكون مبررا في وقت قريب ربما يكون نيسان (أبريل) الجاري. وعمل هذا فورا على إيقاف اندفاع الأسهم العالمية، ما أدى إلى أن يتهم المشاركون ذوو الأصوات العالية في السوق “الاحتياطي الفيدرالي” بالتواصل المربك وغير المتناسق. بل إن بعضهم مضى أبعد من ذلك وشكك علنا في صدقية وكفاءة المؤسسة.
توقفت مثل هذه الانتقادات، على الأقل في الوقت الراهن، بسبب خطاب الأسبوع الماضي الذي قدمته رئيسة “الاحتياطي الفيدرالي”، جانيت ييلين، أمام النادي الاقتصادي في نيويورك. وفي تصريحات تهدئة ملحوظة كان مذاقها مثل الشهد في فم المتفائلين في السوق، أكدت ييلين على الأمور المعيقة في الخارج التي تواجه الاقتصاد الأمريكي، والطبيعة غير المتناظرة لمخاطر السياسات، والألغاز الهيكلية المستمرة. مع وجود هذا، أكدت أن استجابة السياسة النقدية من “الاحتياطي الفيدرالي” قد تكون تدريجية بشكل حذر. بعدها ارتفعت الأسهم، منهية بذلك ربعا قويا عانى هبوطا حادا، ثم شهد ارتفاعا مفاجئا، ليس فقط عند مستوى قريب من ارتفاعات العام، لكنه أيضا قريب من بعض فترات الذروة التي سجلها على الإطلاق.
بقدر ما تكره الأسواق مثل هذا التأرجح، ينبغي لها بدلا من الاعتقاد بأن حالات الخلل في “الاحتياطي الفيدرالي”، أن تدرك أنها تعود إلى العالم غير العادي الذي نعيش فيه.
هناك ثلاث حقائق محددة يرتكز عليها موقف السياسة المستجيب وليس المتعارض على نحو متسلسل، ولم يتمكن “الاحتياطي الفيدرالي” ولا الآخرون من فهم ذلك تماما: فشل نمو الأجور القوي في أن يأتي دائما في أعقاب ما كان فترة رائعة من إيجاد فرص العمل الجديدة، والتوازن ما بين العوامل الهيكلية والدورية، وتراجع مشاركة اليد العاملة، ونمو الإنتاجية والتضخم. وبالنسبة إلى مؤسسة كانت تقليديا ذات تركيز شديد على الولايات المتحدة، هناك الحاجة إلى موازنة التأثيرات الاقتصادية الدولية غير المواتية مع الاقتصاد المحلي الأفضل وضعا.
تعد تلك قضايا لن يتم حلها في أي وقت قريب – خاصة في عالم من السياسة يفرط في اعتماده على البنوك المركزية، الذي تدهورت ديناميات النمو الكامنة لديه خلال الأسابيع الأخيرة.
من هذا الباب، لدى المشاركين في السوق خيار بين أمرين: إما الابتعاد عن الاعتماد المتبادل الذي ساعدهم جيدا، ولكن يعرضهم، لا محالة تقريبا، للتقلبات على المدى القصير وإمكانية حدوث خسائر كبيرة على المدى الأطول، إذا فشلت الأساسيات الاقتصادية والتجارية في تحقيق تقدم كبير، أو الاستمرار في هذا النهج المدعوم من قبل إشارات آتية من “الاحتياطي الفيدرالي” الذي يعتمد على البيانات في ظل اقتصاد متقلب عالميا على نحو غير عادي.
ما ينبغي أن يحدث – أقصد العودة إلى الاستثمار القائم على الاساسيات – ليس الأمر الذي يحتمل أن يحدث في أي وقت قريب. مع هذا، لدى عدد قليل من المستثمرين القناعة اللازمة للابتعاد عن الجماعة التي كان أداؤها جيدا حتى الآن وتعتقد بشكل جماعي أنها لا تزال قادرة على التأثير في سياسات “الاحتياطي الفيدرالي” بشكل يخدم مصالحها. من هذا الباب، ستستمر الاعتمادية غير الصحية لفترة من الوقت، وستعمل الشكاوى على تجديد اللحظة التي يغير فيها “الاحتياطي الفيدرالي” مرة أخرى إشاراته. وهو ما سيفعله حتما.
* كبير المستشارين الاقتصاديين فى مؤسسة إليانز، وعضو لجنتها التنفيذية الدولية، ورئيس مجلس التنمية العالمية التابع للرئيس باراك أوباما.