462 هو عدد الشركات اللبنانية المتورطة في فضائح “وثائق بنما” وفق المعلومات المُسرّبة حتى الآن، إضافة إلى مئات الشخصيات اللبنانية. هذا الواقع الذي يُعطي صورة سلبية عن لبنان، يطرح مُشكلة إستخدام شركات “أوفشور” التي تُشكل الحجر الأساس في الهيكلية المالية للإجرام المالي.
من المعروف أن الشركات هي عبارة عن تنظيم اجتماعي هدفه القيام بنشاط إقتصادي شرعي. هذه التعريف البسيط الذي يخفي عدداً هائلاً من التداعيات الاجتماعية والإدارية والإقتصادية، يُظهر أهمية وإلزامية معرفة الأطراف المعنية- أي الدولة- النشاط الإقتصادي للشركات. لكن هناك شركات وهمية (société écran) تهدف إلى التمويه عن نشاط إقتصادي غير شرعي أو عمليات مالية مُخالفة للقانون. بمعنى أخر، تُعتبر هذه الشركات مثل صندوق بريد بهدف تغطية هوية صاحب النشاط الحقيقي. لكن لماذا تغطية هوية صاحب هذا النشاط؟ الجواب بكل بساطة يعود إلى الأسباب التالية:
(1) التهرب الضريبي: أي أن صاحب النشاط الإقتصادي يريد التهرب من دفع الضرائب، وذلك من خلال إخفاء الممكن من الأرباح. وإذا كانت القوانين قد أعطت الشركات الإمكانية لتخفيف الضرائب عبر شركات “أوفشور”، إلا أن الفكر الإنساني يميل إلى الإستخدام السيء من خلال إستخدام “أوفشور” بطرق غير شرعية.
(2) تبييض الأموال: هذا النشاط غير قانوني ومُعاقب عليه في كل دول العالم. لكن شركات “أوفشور” تُمثل وصفة مثالية لهذه العمليات التي تعتمد على التبادل العالمي الذي هو من أول ميزات شركات “أوفشور”.
(3) تمويل الإرهاب: إن مكافحة تمويل الإرهاب أصبحت شائعة في معظم البلدان، وخصوصاً بُعيد أيلول 2001. وترتكز الإستراتيجية الأساسية التي وضعها الأميركيون على تجفيف مصادر تمويل المجموعات الإرهابية، لذا تمّ وضع قوانين وإصدار تعاميم تفرض على المصارف الحذر والرقابة الفعّالة. وبما أنه بُعيد كل عملية إرهابية يعمد المُحققون إلى معرفة مصدر التمويل، تأتي شركات “أوفشور” والشركات الوهمية كحلّ مثالي للإرهابيين لتمويل العمليات الإرهابية.
إن مبدأ شركات “أوفشور”هو أن الشركة المحلية التي توجه كل عملياتها التجارية الناتجة عن نشاط إقتصادي شرعي إلى الخارج، يُمكن لها التخفيف من الضرائب عبر إعتماد هذا النوع من الشركات. إذاً، الأساس في الأمر هو أن يكون للشركة تعاملات دولية وتبادل تجاري دولي، وبالتالي يتمّ إستخدام الشركات ونشاطها المفروض أنه شرعي، في عمليات تحويل الأموال. هذا الأمر لا تعترض عليه المصارف بحكم أن سبب تحويلات رؤوس الأموال هي النشاطات الإقتصادية.
إلا أن الواقع مّختلف، فالأشخاص الذين يعمدون إلى نشاطات غير شرعية يقومون بإنشاء شركات “أوفشور” ضمن هيكلية مالية معقدة، حيث أن القسم الأدنى من الهيكلية لا يسمح بمعرفة القسم الأعلى. ويقومون بخلق عمليات تجارية وهمية مثلاً: تقوم شركة “أوفشور” لبنانية بشراء خشب من روسيا وتبيعه في السنغال، مما يفرض تحويلاً مالياً من لبنان إلى روسيا وتحويلاً مالياً من السنغال إلى لبنان. وبما أن المصارف لا تستطيع فعلياً التأكد من إتمام العملية، لذا من المُمكن أن تكون هذه العملية مُفبركة بهدف تحويل أموال من دون معرفة المصدر الحقيقي للأموال.
هذا الأمر لا ينقصه إلا دولة تُطبق السرية المصرفية، وبالتالي تُصبح الأمور مُعقدّة أكثر وشبه مُستحيلة الكشف. فمثلاً، يسمح القانون اللبناني للأجانب بإمتلاك شركات “أوفشور” في لبنان، وبالتالي يتمّ إبراز عدد من الأوراق الثبوتية منها أوراق صاحب الشركة. لكن السؤال المطروح: ماذا لو كان صاحب شركة “أوفشور” هو شركة “أوفشور” في جزر العذراء البريطانية أو بنما أو غيرها؟ بالطبع لن يكون هناك أي إمكانية لكشف الأمر.
في لبنان تمّ تسريب معلومات من أوراق بنما تفيد أن هناك 462 شركة لبنانية مُتورطة في العملية. لذا يُطرح السؤال عن الإجراءات التي إتخذتها الدولة اللبنانية على هذا الصعيد. ألا يستحق الأمر فتح تحقيق والطلب من المصارف اللبنانية إعطاء لائحة بالعمليات التي تطال هذه الشركات وإحالتها إلى السلطات الرقابية والقضاء للبحث فيها وتحديد المسؤوليات؟ لماذا هذا الأمر يحصل في فرنسا وبريطانيا وليس في لبنان؟ فهل يتمّ تجاهل اللوائح الموجودة في هذه الوثائق من قبل الدولة اللبنانية؟
إن “وثائق بنما” التي يبلغ عددها 11.5 مليون، تحوي على معلومات هائلة من أسماء شركات وشخصيات عالمية مُتورطة في إجرام مالي. وهذا الأمر قد يكون السبب الرئيس في عدم نشرها على صفحات الإنترنت.
ويبقى السؤال عن التداعيات الإقتصادية والمالية على لبنان؟ على هذا الصعيد، يتوجب فصل الموضوع إلى شقين:
(1) الشركات التي تُمارس نشاط إقتصادي شرعي (أي هناك تهرّب ضريبي): في هذه الحال، إن الخسائر التي تتكبّدها خزينة الدولة من ضرائب كانت لتحصّلها، قد تبلغ مئات الملايين من الدولارات.
(2) الشركات التي تُمارس نشاط إقتصادي غير شرعي: هنا لا يُمكن الحديث عن خسائر مالية على الدولة اللبنانية بحكم أن النشاط غير شرعي، وبالتالي فإن هذا الأمر لا يدخل في خانة مداخيل الخزينة.
لكن في كلا الحالين، هناك خسائر إقتصادية مباشرة تتمثل بحرمان الإقتصاد اللبناني من أموال كانت لتُستثمر فيه. وهناك خسائر إقتصادية غير مباشرة تتمثل بتشويه سمعة لبنان العالمية، مما يدفع المُستثمرين الأجانب إلى الهروب، ويدفع المصارف العالمية إلى تفادي التعامل مع المصارف اللبنانية.
ويقدّر حجم الأموال المُحولة عبر الشركات اللبنانية المتواطئة عشرات المليارات من الدولارات. لذا على مصرف لبنان من خلال هيئة التحقيق الخاصة، الطلب من المصارف تفاصيل التحويلات عبر لبنان من قبل شركات لبنانية إلى جنات ضريبية (جزر العذراء البريطانية، بنما، نيوزيلندا…)، ورصد الشركات المعنية وتحويل الأمر إلى القضاء في حال الشك في إحدى الشركات.