كتبت سعدى علّوه في صحيفة “السفير”:
تحيط بملف الانتخابات البلدية لنحو 1100 بلدية في لبنان، مفارقات عدة. ويتصدّر احتمال إجراء الانتخابات (تبدأ في 8 أيار المقبل) من عدمه لائحة هذه المفارقات. إذ تشي أوساط سياسيين سبق وأكدوا إجراءها، بأنهم يقولون عكس ذلك في مجالسهم الخاصة. كما يطرح عدم تنشيط الماكينات الانتخابية للقوى السياسية، وغرف عملياتها أكثر من تساؤل على رهان هذه القوى على ظروف قد تحول دون المضي في الاستحقاق إلى خواتيمه.
وتحكم التحالفات السياسية المستجدّة المفارقة الثانية حيث تشكّل البلديات أرضاً خصبة لاختبار «تفاهم معراب» ما بين «التيار الوطني الحر» وبين «القوات اللبنانية» من جهة، وبين زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية وتيار «المستقبل» وبين القوى المسيحية في «14 آذار» من جهة ثانية، وهو ما أطاح بمواجهات كانت تُعتبر من «أمهات المعارك» وعلى رأسها زغرتا على سبيل المثال لا الحصر.
ويبدو المسيحيون الأكثر حماساً في التعاطي مع الاستحقاق البلدي ليس لأهميته فقط، بل كونه يشكّل «بالون اختبار» لما ستكون عليه الانتخابات النيابية المقبلة في ظل المستجدات التحالفية، وتأثيره في تكريس الزعيم المسيحي الأقوى، وبالتالي المرشح الطبيعي لمنصب رئيس الجمهورية.
في المقابل، تبدو القوى الأخرى محكومة بواقعها: تيار «المستقبل» وأزمته المالية والتنظيمية، ومحاولته لمّ شمل البيت السني. وإذا بدأنا من العاصمة وضرورة تأمين نسبة اقتراع من 20 في المئة وما فوق، لتأمين فوز لائحته، خصوصاً إذا بقيت القوى المواجهة لها على تشتتها. ويُولي الرئيس سعد الحريري أهمية كبرى للوصول إلى تفاهم في طرابلس، إذا ما اعتبرنا أن المعركة واقعة لا محالة في صيدا.
وفي الحيثية الشيعية، يحسم تحالف «حزب الله» وحركة «أمل» تلقائياً عدداً كبيراً من البلديات بالتزكية من جهة، ووسط اختبار آخر لـ «الحزب» هو الأول من نوعه بعد دخوله الحرب في سوريا، وتأثير ذلك على بيئته الحاضنة واختبارها وسط كم الدماء المدفوعة في القرى الشيعية من أقصى البقاع إلى آخر قرى الحدود الجنوبية مع فلسطين. ومع ذلك يبدو المشهد في بلديات ساحل المتن الجنوبي المتمثل بالضاحية الجنوبية مقبلاً على تغييرات يُضفيها «حزب الله» تشمل بعض الأسماء المعروفة في بلديات أساسية.
ولكن التحدّي الأكبر الذي تواجهه الانتخابات البلدية على صعيد حقوق المواطنين بالتنمية والتغيير وتطوير آليات العمل البلدي، خصوصاً تكوين بنية سياسية قد تلعب دوراً تغييرياً في اللعبة الانتخابية النيابية، يتمثّل بهيمنة القوى السياسية التقليدية التي أمسكت بمفاصل الدولة وخدماتها في جمهورية ما بعد الطائف. هيمنة تبدو مرتاحة إلى مواقعها في ظل عدم تبلور قوى سياسية بديلة باستثناء بعض المبادرات التي تحاول قوى مدنية وسياسية، على قياس شخصيات أكثر منها تيارات، تشكيلها في وجه «المحادل» التي لا تقتصر على الاستحقاق النيابي بل تتعداه إلى البلدي برغم الاعتبارات العائلية والمناطقية التي تختلف ما بين الاستحقاقين.
وبالإضافة إلى «المحادل» السياسية التي، وإن تغيّرت التحالفات، فإنها تبقى تحت مظلة النادي السياسي المتقاسم للسلطة عينه، بعيداً عن أي قوى تغييرية جديدة، يبرز تأثير الاستقطاب الطائفي وقدرته على التحكم بالنتائج مما يطيح بأي حيوية قد يراهن عليها المواطنون بدءاً من إتاحة المجال للممارسة الديموقراطية الشفافة، وللمحاسبة التي يجب أن تحكم أداء السلطتين المحلية والنيابية.
وفي هذا المجال، يكتسب البعد المسيحي، الأبرز في الاستحقاق الحالي، أهمية أكبر حيث تخوض القوى المسيحية عملياً الانتخابات البلدية الأولى ما بعد الحرب اللبنانية وفق توازنات مسيحية مستجدّة. فـ»القوات» تخوض استحقاقها البلدي من دون «يد المستقبل» وجيبه، وعلى وقع تذويب الانقسام في الساحة المسيحية التي كانت تحافظ على الحد الأدنى من الحيوية السياسية مع وجود قطبين أساسيين كـ «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية» على طرفي الانقسام السياسي في البلاد المتمثل بـ «8 و14 آذار».
ومع فتح «التفاهم» أبوابه لتحالفات متنوعة، يبدو أن القوة التجييرية لميشال المر في المتن الشمالي والأعلى لن تغرد خارج سرب لوائح التفاهم.
وفي حال تمكن طرفا «تفاهم معراب» من حصد نتائج كاسحة في البلديات فسيتمكنان من توجيه رسالتهما الأهم وهي قدرتهما، في حال استمرار التحالف، على الإتيان بنحو 45 إلى خمسين نائباً من أصل 64 نائباً مسيحياً وفي أسوأ قانون انتخابي قد يُعتمد، ومن ضمنه قانون الستين.
ويفتح التحالف نفسه العين الجنبلاطية في القرى المختلطة في الشوف وعاليه وهو اختبار ليس بالسهل، وإن كان زعيم المختارة النائب وليد جنبلاط مرتاحاً في مناطقه، كما أرسى تفاهماته مع النائب طلال إرسلان في مناطقهما المشتركة.
وفي جوجلة لمحصلة التحالفات السياسية في الاستحقاق البلدي تبرز التكتلات الطائفية في قلب التحالفات السياسية لقوى الأمر الواقع في كل طائفة وكأننا نخوض عملياً انتخابات بلدية بروحية القانون الانتخابي الأرثوذكسي من دون «منّة» التوافق الوطني المطلوب ومجلس النواب معاً.