كاترين هيل
لا يزال هناك عدد قليل من الأشياء في شقة ياروسلاف تشهد على الحياة التي عاشها: القطة البرتقالية بصحتها الممتازة، والكرسي المرتفع لابنته في المطبخ، والأرضية المصفحة من البلوط التي وضعها قبل عام.
اختفى كل شيء آخر. عندما فقد هذا المهندس البالغ من العمر 35 عاما وظيفته في وكالة لسيارات لادا في مدينة توجلياتي الصيف الماضي، نفد المال منه بسرعة. أولا باع وحدة التحكم بالألعاب، ومن ثم التلفاز. وبعد أن تركته زوجته – الحامل بتوأم – في كانون الأول (ديسمبر)، وأخذت معها ابنتهما البالغة من العمر عامين، تخلص حتى من السرير. يقول: “ما تبقى هي الأشياء التي لا يأخذها محل الرهونات”، وهو يشرب زجاجة أخرى من مشروب رخيص الثمن عند حافة النافذة. ويضيف قائلا بينما كان يمزق ورق الجدران المتبقي من عمليات تجديد لم تنته بعد: “يبدو أن وضع التسعينيات عاد مرة أخرى”.
أثناء تعرض الروس لقبضة الركود الأطول منذ 20 عاما، يبدو بأنهم مضطرون إلى القبول بالأمر الواقع الذي يتسم بفقدان النمو والازدهار اللذين اعتادا عليهما بوصفهما سمة مميزة لحكم الرئيس فلاديمير بوتين. على الرغم من وجود قلة ترى حياتها وهي تتفكك تماما كما حصل مع ياروسلاف، يخشى كثيرون من العودة مرة أخرى إلى حقبة كانوا يأملون نسيانها: عقد الركود والصدمات الاقتصادية والفقر الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991.
تقول تاتيانا ماليفا، مديرة معهد التحليلات والتنبؤات الاجتماعية في الأكاديمية الروسية للاقتصاد القومي والإدارة العامة، المعروفة اختصارا بـ “رانيبا”: “أصبح الروس يقدرون عاليا الرفاهية الاجتماعية التي تحققت منذ عام 2000، وبالتالي سيكون من المؤلم جدا التخلي عن هذا. الآن، ونحن نعاني عامين من الأزمة، ليس هناك أي أمل في تحقيق النمو، وهذا يذكر الناس بفترة التسعينيات”. وتضيف: “نحن مجبرون على الإقرار والاعتراف بأن العواقب الاجتماعية المترتبة على تلك الأزمة ستكون مشابهة لفترة التسعينيات لأننا نشهد ركودا موسعا طاحنا طال أمده”.
صفقة بوتين
تباطأ النمو الاقتصادي بشكل حاد حتى قبل أن يتسبب هبوط أسعار النفط الخام وتأثير العقوبات الغربية، التي فرضت بسبب دور روسيا في الحرب في أوكرانيا، في الإضرار بروسيا في عام 2014. وحتى لو انتهى الركود في العام المقبل، من غير المحتمل أن يكون النمو أكثر من كونه ثابتا بعد سنوات من انكماش الاستثمارات وانخفاض دخل الأسر المعيشية.
يعتقد معظم الروس أن أسوأ أضرار الضائقة الاقتصادية لا تزال في طريقها إليهم، وفقا لمركز بحوث الرأي العام الروسي “فسيوم”، وهو مركز استطلاع للرأي كثيرا ما يستخدم من قبل الكرملين، في إشارة إلى أنه رغم تصنيفات الشعبية المرتفعة جدا لبوتين، إلا أن الثقة بقدرته على تحقيق مستقبل أفضل ذهبت أدراج الرياح.
أصبح بوتين رئيسا للمرة الأولى عشية العام الجديد في 1999، اللحظة التي حققت فيها أسعار النفط قفزة حادة وموسعة. وقد استمر هذا الوضع لمدة 14 عاما مع توقف بسيط خلال الأزمة العالمية التي حدثت في 2009/2008. في ما يسميه كثير من المراقبين صفقة بوتين مع الشعب الروسي، تحملت البلاد القيود المفروضة والمتزايدة على الحريات السياسية المكتسبة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي مقابل الرفاهية الاقتصادية والاستقرار. عمل النمو خلال فترة حكم بوتين على انتشال أجزاء كبيرة من المجتمع من براثن الفقر، وساعد الروس في أن يصبحوا في صحة أفضل وأن يعيشوا فترة أطول، وخلق طعما لغنائم حياة الطبقة المتوسطة مثل السفر إلى الخارج.
بحلول عام 2014 تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في روسيا، استنادا إلى معادل القوة الشرائية، مقارنة بعام 2000. وانخفض معدل وفيات الأطفال إلى النصف، وازداد متوسط العمر المتوقع بنسبة 12 في المائة، وارتفعت نسبة الشباب المسجلين في التعليم العالي من النصف إلى ثلاثة أرباع.
حتى الآن، تم التراجع عن جزء ضئيل فقط من تلك المكاسب الاجتماعية، التي يراها المجتمع الروسي على نطاق واسع أهم الإنجازات التي حققها الرئيس بوتين. تقول ماليفا: “إن المؤشرات التي من قبيل مستويات الدخل ومستويات الفقر تشير إلى أننا قد تخلفنا ست سنوات – إلى الفترة التي شهدنا فيها ذروة الأزمة الاقتصادية الأخيرة في عام 2009. انخفضت الأجور 10 في المائة العام الماضي بدلا من ثلاث مرات، كما حصل في التسعينيات”.
مع ذلك، يشعر كثير من الناس أنهم يتراجعون خطوة أكبر بكثير إلى الوراء، وهو تصور تدعمه الطبيعة الممتدة للأزمة الحالية. على الرغم من أن عام 2015 كان العام الأول الكامل للانكماش الاقتصادي، بدأت الدخول في الانخفاض في العام السابق ولا تزال تواصل انخفاضها. في شباط (فبراير)، تناقص دخل الأسر المعيشية الحقيقي بنسبة 7 في المائة مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، هو الانخفاض الأسرع منذ كانون الأول (ديسمبر) من عام 2014.
تقول بريجيت هانسل، كبيرة الاقتصاديين عن منطقة روسيا في البنك الدولي: “الزيادة في الدخول منحت الناس فرصة الحصول على رعاية صحية أفضل وفرص تعليم أفضل وبعض امتيازات السفر إلى الخارج على نفقتهم الخاصة. وكانت هذه المصروفات على بعض الإضافات هي المنفعة الحقيقية الناتجة عن التحول، لكن هذا التراجع الذي طال أمده في الدخل يزيد من اعتماد الناس على البنية التحتية القديمة مرة أخرى، وهم يدركون مدى سوء هذه البنية التحتية القديمة الآن”.
ومع أن الروس دفعوا ثلاثة أرباع تكاليف الرعاية الصحية الخاصة من جيبهم الخاص في عام 2000، ارتفعت هذه النسبة إلى أكثر من 90 في المائة بحلول عام 2014.
تقول هانسل: “كان الناس يتجنبون المستشفيات العامة كالطاعون. الآن، بما أنه عليهم الذهاب إلى هناك من أجل توفير المال، ربما يشعرون كما لو أنهم يعودون لفترة التسعينيات”.
يحاول كثير منهم عدم فعل ذلك. وفقا لبيانات جمعتها الصحيفة الروسية “آر بي سي”، تنفق 44 في المائة من أسر الطبقة المتوسطة الحضرية مبالغ على الرعاية الصحية بقدر ما اعتادت عليه، وهذا يشكل نسبة مئوية أكبر من أي بند آخر. أما تخفيضات الإنفاق على الطعام والملابس والكحول حتى الآن فهي تتجاوز تلك التخفيضات على الدواء.
لتجنب مستشفيات الدولة وضمان البقاء ضمن حدود الميزانيات، أصبح أهل موسكو أكثر دهاء. يقول المسلم ماسليموف، الطبيب ومالك العيادة رقم 1، وهي عيادة خاصة متوسطة الحجم في موسكو: “بدأ المرضى في تجنب الإجراءات المكلفة مثل تقويم المفاصل (جراحة المفاصل). كما أنهم يحصلون أيضا على آراء أخرى من أطباء آخرين في كثير من الأحيان. في الماضي، فإن خمسة من أصل عشرة مرضى يأتون للحصول على استشارة قد يحصلون على بعض العلاج فيما بعد، أما الآن فالعدد اثنان أو ثلاثة”.
التدابير الجديدة القائمة على الاقتصاد في النفقات تدفع العيادات الخاصة إلى طريق المنافسة الشرسة. خلال الأشهر الستة الماضية، ظهر القليل من مواقع الصفقات المخصصة للعيادات الخاصة. وعلى مواقع إلكترونية، مثل ميدبوكينج أو دوك دوك، التي تفاوض بشأن الخصومات في بعض العيادات، يمكن للمرضى العثور على أدنى الأسعار لأي علاج متاح في مدينتهم في ذلك الوقت.
ويحذر مختصون من أن مثل هذه الأساليب في التعامل لن تكون كافية. ووجد معهد ماليفا أخيرا أن الأسر لا تزال تناضل من أجل التكيف مع الأزمة الاقتصادية وتفشل في موازنة ميزانياتها.
تقول ماليفا: “التطورات الاقتصادية – الاجتماعية من النوع الذي شهدته روسيا خلال العقد ونصف المنصرم لم يعمل على إيجاد أي احتياطيات أمن فاعلة”.
العاملون الفقراء
خلال فترة الركود الاقتصادي الأخير في روسيا، وهي فترة الركود العميق ولكن القصير في عام 2009، خففت الحكومة من التداعيات من خلال توزيع هبات الدعم الاجتماعي. الآن، بينما تعمل أسعار النفط المتراجعة على خفض إيرادات الميزانية بشكل عميق وأكثر من نصف مناطق البلاد تعاني عجزا، لا يوجد ما يكفي من المال لمواجهة ذلك كله.
وفقا لوكالة الإحصاءات الفيدرالية في روسيا، عاش 14 في المائة من السكان دون خط الفقر الرسمي في عام 2015، مقارنة بـ 11 في المائة عام 2014، وتعد النسبة المئوية الأعلى منذ عام 2006. مع ذلك، يعتقد علماء اجتماع من أكاديمية العلوم الروسية أن الوضع أسوأ. ويقدرون أن عدد الفقراء تضاعف منذ عام 2013 ليبلغ ربع السكان.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من السنوات العديدة من النمو الاقتصادي، فشلت الدولة في إعداد نظام المعاشات التقاعدية الخاص بها لسكان يتقدمون في العمر بسرعة. وهذا العام رفعت الحكومة المعاشات التقاعدية بنسبة 4 في المائة للتعويض عن ارتفاع الأسعار الاستهلاكية، لكن بما أن معدل التضخم كان أكثر من ضعف ذلك في الشهر الماضي، تتراجع دخول المعاشات التقاعدية الحقيقية.
ويحصل أصحاب المعاشات التقاعدية في الأصل على دخول منخفضة على نحو غير متناسب وهم يمثلون ثلث عدد السكان. ومن المتوقع أن يساوي هذا العدد حجم عدد السكان ممن هم في سن العمل – الآخذ في التقلص بواقع مليون شخص سنويا – بحلول عام 2030. ويقول مختصو اقتصاد مستقلون إنه بما أن المعاشات التقاعدية غالبا ما تكون حجر الزاوية في دخل الأسرة، فإن ما يصل إلى نصف السكان معرضون لخطر الوصول إلى مستوى الفقر.
ويحذر آخرون من أنه إذا استمر الاقتصاد في الركود لخمس سنوات أو أكثر، سوف يتم خسارة المزيد من المكاسب التي تحققت خلال سنوات حكم بوتين، وربما يقترب المجتمع الروسي أكثر من وضع مماثل تماما للذي عاشه خلال فترة التسعينيات مع كل ما يصاحب ذلك من عوامل التوتر الاجتماعي والإدمان المزمن على الكحول وانخفاض متوسط العمر المتوقع.
وبالنسبة لكثيرين، يمكن أن يظهر خطر التعرض للفقر حتى وإن كانت لديهم وظيفة. وبما أن عدد سكان روسيا ممن هم في سن العمل آخذ في التقلص، يتمسك أصحاب العمل بأكبر عدد ممكن من الموظفين لديهم حتى خلال الأزمات، لكنهم يعملون على خفض الرواتب، ومنح العمال إجازات غير مدفوعة الأجر، وتأخير دفع الأجور، أو إيقاف العلاوات الاجتماعية.
يقول أليكساندر أليكسينكو، وهو سائق شاحنة متقاعد من إيفانوفو، وهي منطقة ريفية تقع غربي موسكو تدهورت حظوظها جنبا إلى جنب مع تراجع مصنع وحيد للملابس يوجد فيها: “يتعرض الناس هنا لكثير من الضغط، وكذلك المنطقة برمتها”. والآن يعمل نحو 70 في المائة من السكان المحليين ممن هم في سن العمل في العاصمة، معظمهم يعملون في وظائف خدمية متدنية المستوى.
واكتسب أليكسينكو البالغ من العمر 63 عاما بعض الشهرة المحلية من خلال كشفه عن سياسات الحكومة غير الفاعلة. ودعا أيضا إلى استقالة الرئيس بوتين في اجتماع حاشد أخيرا لسائقي الشاحنات، ونظم احتجاجا ضد نظام رسوم الطرق الإلكتروني الذي يديره صديق للرئيس.
ووفقا لـ “فسيوم”، الارتياح والرضا العام عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية هو الآن عند أدنى مستوياته منذ عام 2011. في كانون الثاني (يناير) قال 32 في المائة ممن شملهم استطلاع للرأي إنهم سيشاركون إذا كانت هناك احتجاجات تتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية في بلدتهم، وتلك هي النسبة الأعلى المقيسة من قبل “فسيوم” خلال فترة حكم الرئيس بوتين.
ومنذ ذلك الحين استقرت الأرقام، لكنها لا تزال أعلى من أي وقت منذ خريف عام 2011 – عندما شهدت موسكو مظاهرات حاشدة ضد الرئيس بوتين.
في توجلياتي، موطن ياروسلاف، يبدو الغضب ملموسا. باعتبارها مدينة يعيش فيها 712 ألف نسمة على بعد 600 ميل جنوب شرقي موسكو، تأثرت وبشكل كبير بسبب التراجع في مصنع سيارات لادا الشاسع، الذي بنيت المدينة حوله. ويلقي سيرجي، سائق سيارة الأجرة البالغ من العمر 40 عاما، اللوم على بوتين لأن محل البقالة خاصته تعرض للإفلاس قبل بضع سنوات. يقول غاضبا: “إنه نوع من المؤامرة قام بها هو. لا أصدق بوتين ولا أصدق أي شخص في الحكومة. في الواقع، سأبيع هذا البلد لأي شخص يريد شرائه بمبلغ ربع مليم”. مع ذلك، المراقبون متشككون إزاء إمكانية حدوث تمرد على نطاق واسع. يقول مسليموف إنه يستشعر الحذر بين أهل موسكو، مع إظهار أقل للاهتمام بالسياسة. حتى تلك الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية التي تكون عادة أكثر احتمالا للاحتجاج تراها متراجعة.
ورغم كل مشاعر السخط لدى أليكسينكو، لا يوجد أي أحد مستعد سواء بين سائقي سيارات الأجرة، أو الطبقة العاملة في إيفانوفو، أو الطبقة المتوسطة في روسيا لتحويل سخطهم وعدم ارتياحهم إلى عمل سياسي. يقول: “عندما بدأ بوتين عمله رئيسا، وضع الجميع آمالا كبيرة فيه واستمروا في الإيمان به لفترة طويلة. الآن لا أحد يؤمن به مطلقا. ومع ذلك، من أجل تحقيق ما يسمى بالاستقرار، سيتحمل الناس أي شيء”.
فجوة الدخل
يقول أليكسينكو، الذي يعتبر شيوعيا وكان يعمل على تنظيم احتجاجات منذ أكثر من 30 عاما، إنه ينبغي للمواطنين اتباع نهج المزارعين الفرنسيين الذين يصبون الحليب في الشوارع للاحتجاج على الانخفاض في أسعار منتجاتهم. يقول: “لكن لا. الناس هنا يركعون ويرضخون. أنا لا أقول إنهم خائفين. أعتقد أنهم فقط لا يعتقدون أن بإمكانهم تغيير أي شيء”.
أحد العوامل هو أن الطبقة المتوسطة ـ عامل التغيير من الناحية التاريخية في المجتمعات الأخرى ـ بالكاد توسعت خلال السنوات الـ 16 التي حكم فيها بوتين. وفقا لبيانات رانيبا، كانت مستقرة عند نحو 20 في المائة من المجتمع الروسي منذ عام 2000.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من مكاسب الثروة الكلية التي حققتها روسيا خلال فترة حكم بوتين، اتسعت الفجوة في الدخل. ارتفع معامل جيني للبلد – وهو مقياس معترف به على نطاق واسع لعدم المساواة – من 37 في عام 2000 إلى 41.6 في عام 2012، ما يشير إلى توزيع أقل مساواة في الدخل، الأمر الذي يعتقد علماء الاجتماع أنه يقلل من أثر التمكين السياسي.
والقوى الأخرى المهمة بالنسبة لمستقبل اقتصادي نابض بالحياة، مثل العلماء والمواهب متعددة اللغات، تركت البلد وسط تصاعد الضغوط السياسية والروبل الضعيف. ووفقا لمركز ليفادا، مركز استطلاعات الرأي المستقل الوحيد في روسيا، من المرجح أن يهاجر الأشخاص الأكثر أمنا من الناحية المالية والأفضل تعليما.
تقول ماليفا: “يخشى بعض الناس الاضطرابات الاجتماعية. وما أخشاه أكثر هو اللامبالاة الاجتماعية وتأخر النمو. بوجود مجتمع كهذا، سيكون الوضع حتى أكثر صعوبة إذا أردنا إخراج أنفسنا من الأزمة، وسيكون من المستحيل تحقيق انطلاقة جديدة”.