كتبت سلوى بعلبكي في صحيفة “النهار”:
مع انتهاء الحرب اللبنانية وبدء ورشة إعادة الاعمار وتفعيل المؤسسات، شهد الاقتصاد اللبناني والقطاع المصرفي فترة من الدمج والاستحواذ، إذ كان يوجد نحو 82 مصرفاً في تلك الفترة. وأخيراً شهدت السوق عمليات دمج بين مصارف كبرى وأخرى صغرى كان آخرها بين مصرفي بيبلوس وفرعون وشيحا. فما هي فوائد سياسة الدمج التي يشجعها مصرف لبنان وأسبابها؟
على رغم ان مصرف لبنان يشجع عمليات الدمج بين المصارف الكبرى والصغرى ويدعمها، الاّ انه وفق ما يقول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ”النهار” لم يقدم يوماً على فرض أي عملية من هذا النوع وأن عملية الدمج الأخيرة بين بيبلوس وفرعون وشيحا لم تكن بطلب من المركزي بل بسبب رغبة المساهم الأكبر في فرعون وشيحا في بيع حصته.
وفيما يعتبر البعض أن عملية الدمج الأخيرة التي حصلت هي الغاء للمكونات التاريخية في لبنان خصوصاً أن “فرعون وشيحا” يعتبر من أقدم المصارف في لبنان، أكد الحاكم أن قرار دمج المصرفين له اسبابه التي تعود الى الفريقين، علماً أنه قرار اختياري لا يعارضه مصرف لبنان، إذ يعزّز الاستقرار التسليفي.
الى ذلك شهدت السوق اللبنانية خروج عدد من المصارف الأجنبيّة لأسباب تتعلّق بإستراتيجيّة هذه المصارف في الأسواق الناشئة، ولعدم تمكنها من منافسة المصارف اللبنانيّة، وخصوصاً الكبيرة منها. لذا يتخوّف البعض من أن يكون تشجيع المصارف الصغيرة على الاندماج مع المصارف الكبيرة هو بداية لإلغاء المصارف الصغيرة وفتح باب لاحتكار العمل بمجموعة صغيرة من المصارف الكبرى، وتالياً إلغاء مبدأ التنافس. وهذا الأمر رد عليه سلامة بالقول إنه “لا توجد نيّة لدى مصرف لبنان في الغاء المصارف الصغيرة، ولم ولن يدعو مصرف لبنان المصارف الصغيرة للاندماج بالمصارف الكبيرة. تلك قرارات تعود الى أصحاب المصارف، وكل ما يطلبه مصرف لبنان هو احترام المصارف لتعاميمه”.
أمام الواقع الذي تعيشه المصارف الاجنبية، ثمة من يسأل لماذا لا يتم توجيه مبالغ الدمج للاستحواذ على الأسهم والحصص الأجنبية المطروحة للبيع؟ إلاّ أن سلامة يؤكد أن قانون دمج المصارف لا يسمح بذلك.
عياش: عهد الأرباح السهلة انتهى
السياسة النقدية التي تساندها الدولة غلّبت لفترة طويلة هدفين رئيسيين: المحافظة على استقرار سعر الصرف وتسهيل تمويل الدين العام، بما أدى إلى توسيع الهامش على نحو كبير واستثنائي بين الفوائد الدائنة والمدينة، فحققت المصارف أرباحاً كبيرة وسهلة مكّنتها من زيادة الأموال الخاصّة وجبه الخسائر والمؤونات وتلبية الحاجات التشغيلية ونفقات التطوير البشري والتكنولوجي.
وعلى رغم أن أهداف السياسة النقدية لم تتغير فإن شروط سوق الفوائد تبدّلت بشكل كبير وبات الهامش ضيّقاً، فانتهى عهد الأرباح السهلة، وبات على المصارف وفق ما يقول الخبير المصرفي الدكتور غسان العياش “أن تراقب بدقة وحذر قدرتها على تلبية المتطلبات الكبيرة الناجمة عن الخسائر المحتملة في ظل الركود الاقتصادي، إضافة إلى المتطلبات المكلفة جداً لتدابير الوقاية جراء تطوّر المعايير الدولية التي يتبنّاها مصرف لبنان، متزامنة مع مستلزمات المطابقة للقواعد المالية الدولية في مجال مكافحة تبييض الأموال”.
وبات مفروضاً على المصارف، كبيرة كانت أم صغيرة، تخصيص موارد كبيرة لشراء برامج المعلوماتية واستقطاب خبرات مصرفية متخصّصة لتطبيق هذه القواعد التي لا يتهاون مصرف لبنان بتاتاً في تطبيقها. ومثلما تخضع المؤسّسات المصرفية لرقابة دقيقة من مصرف لبنان، يخضع المصرف المركزي والنظام المصرفي ككل لرقابة مشدّدة من المراجع المالية الدولية التي تتأكد بصورة دائمة من حسن تطبيقها، علماً أن بعض المصادر قدرت كلفة التجهيزات التقنية التي يحتاجها القطاع المصرفي اللبناني في هذا المجال بما لا يقلّ عن 500 مليون دولار في الاعوام القليلة المقبلة. هذا الواقع يؤدي الى نتيجة واحدة يلخصها عياش بالآتي: “المصارف التي لا تستطيع توفير المتطلبات الكبيرة من مواردها وأموالها الخاصّة لا بدّ من أن تخرج من السوق، بدمجها مع مؤسّسات أقوى وأكبر”.
نشأت معظم المصارف اللبنانية قبل قانون النقد والتسليف كمؤسّسات مالية عائلية. صحيح أن الهوية العائلية لهذه المؤسّسات عزّزت الثقة فيها في مجتمع الأعمال اللبناني (عوده، باسيل، صحناوي وصبّاغ على سبيل المثال) ولكن تطوّر الصناعة المصرفية في لبنان بات يتطلب قدرات تتجاوز إمكانات العائلات ورساميلها المحدودة، فشاهدنا ظاهرة الزيادات المطّردة لرساميل المصارف التي استقطبت حشوداً من المستثمرين والمساهمين اللبنانيين والعرب، المنتمين إلى بيئات واسعة ومتنوّعة، من أفراد ومؤسّسات. وهذه التطوّرات برأي عياش، أضعفت قدرة المصارف الصغيرة على الاستمرار في عزلتها وأفقدتها إمكان المنافسة في ظل التمركز الشديد في صناعة لبنان المصرفية. فالمصارف العشرة الأولى تستأثر بأكثر من 80% من ودائع المصارف وأموالها الخاصة وثلاثة أرباع تسليفاتها للزبائن المقيمين، فيما تستأثر المصارف الثلاثة الأولى وحدها بنحو 40% من النشاط المصرفي.
غبريل: الدمج يحافظ على تنافسيّة القطاع
تعكس الأرقام والمؤشّرات بوضوح تركّز العمل المصرفي في لبنان، وتالياً الحاجة إلى عمليات الدمج والتملّك. ووفق ما يقول كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس الدكتور نسيب غبريل فإن عمليّات الدمج يمكن أن تتم بين مصرفين أو ثلاثة من ضمن المصارف الـ40 الأخرى، بما يساعد على تشكيل كيان مصرفي متوسّط الحجم يستطيع أن ينافس في اقتصاد أصبحت فيه المنافسة بين المصارف شديدة، خصوصاً في ظلّ الركود الاقتصادي السائد على نحو أدى الى تراجع فرص التسليف وشحّ المشاريع الجديدة وتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إن من المغتربين اللبنانيّين أو من الدّول العربيّة أو من مستثمرين أجانب. كذلك، تعزيز القطاع المصرفي ممكن عبر عمليّات الاستحواذ، إذ أن مصرف كبير يمكنه شراء مصرف صغير أو متوسّط، ما يعزّز قدرات الأول ويجنّب الثاني استثمارات ربما لا يقدر عليها في تكنولوجيا المعلومات والامتثال والتدريب والتوسّع، وفي ابتكار المنتجات المصرفيّة، وفي مجالات الأمن الإلكتروني وإدارة المخاطر. كما أن ضغوط السوق تكمّلها متطلبّات الامتثال التي أصبحت تشكل أحد أهم العوامل في العمل المصرفي وتستحوذ على حصة مهمة من ميزانيات المصارف، والامتثال لا يطاول فقط مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتطبيق العقوبات الدوليّة، ولكنه يشمل كذلك تطبيق معايير مقررات Basel II وBasel III، ومعايير الإدارة الرّشيدة، وغيرها. وهذا ما يرتّب كلفة على المصارف إن من ناحية زيادة رأس المال أو توظيف عدد كبير من الأشخاص ذوي خبرات في هذا المجال.
ويعتبر غبريل أنه “من الصّحي أن نشهد موجة جديدة من الدّمج والاستحواذ تؤدّي إلى انخفاض عدد المصارف إلى 25 أو 30 مصرفاً تقريباً، وهذا ما يحافظ على التنافسيّة في القطاع، كما يؤدّي إلى تقوية القطاع، ممّا يلبّي حاجات الاقتصاد التّمويليّة. وعلى رغم أن مصرف لبنان يشجع الدمج، الاّ أن سياسته هذه لا تنطبق على دمج المصارف الـ14 الكبرى في ما بينها، وفق غبريل، “وذلك لتجنّب أي احتمال لكيان مصرفي باستحواذ حصّة كبيرة من السوق، وحرصاً على شفافيّة القطاع وعدم السّماح بالقول إنّ كياناً مصرفياً كبيراً يستطيع فرض شروطه على السوق بأكمله”