عصام الجردي
يتدخل مصرف لبنان في سوق القطع بائعاً الدولار الأميركي. ازدادت وتيرة التدخل اعتباراً من 19 آذار 2016 بعد اعلان الحكومة السعودية وقف هبتين بواقع 4 مليارت دولار أميركي، منها 3 مليارات للجيش اللبناني ومليار لقوى الأمن الداخلي. تدخل مصرف لبنان ليس الأول من نوعه وقت الصدمات النقدية القوية، لاسيما المتأتية من تطورات سياسية وأمنية. الاستقرار النقدي في صلب وظيفة المصارف المركزية في العالم. وأدوات ذلك الاستقرار لا تقتصر على التدخل في السوق بائعا العملات الأجنبية وشارياً، بل وتتصل زيادة أو نقصاناً، بمعدلات الفائدة، وسعر الحسم، والاحتياط الالزامي للتأثير في حجم الكتلة النقدية. وغيرها من أدوات استخدمها مصرف لبنان بحرفية. والاستقرار النقدي عندنا يتسق وسياسة مقررة سلفاً، لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، منذ تسلم حاكم المصرف رياض سلامة مسؤولياته قبل نحو 24 عاماً، في صرف الاعتبار عن نتائج تلك السياسة اقتصادياً. ذلك أن حجم الكتلة النقدية المستهدف من المصارف المركزية، ومعدل الفوائد الرئيسية على صلة مباشرة بمستويات النمو الاقتصادي والتضخم وسوق العمل.
لا يتردد حاكم مصرف لبنان في تكرار “الليرة صامدة ولا خوف عليها”. المواطن البائس لا يريد غير ذلك. وقد طارت مدخراته البسيطة خلال الحرب في لعبة جهنمية تغذت من ظروف أمنية وسياسية واقتصادية أنتجت مضاربة على سعر صرف الليرة. طارت الطبقة الوسطى عماد أي اقتصاد، إنتاجاً، وتبادلاً، واستهلاكاً، وابتكاراً وموارد بشرية، وسحقت الطبقة الفقيرة ومعها قرش الأرملة وأبيضه لليوم الأسود. وتآكلت دخول العاملين بالأجر، ومَن ترَبح من إفقار الوطن في تلك الحقبة السوداء، نفر قليل جداً من الـ “أوليغارشيا”، باشتقاق المفردة من “أوليغارخيا” اليونانية التي عنها تحدث أفلاطون مرة أولى، وعنى بها فئة قليلة جداً من الأثرياء تحتكر المال والسلطة، وعنت لنا في لبنان حفنة 5% من المودعين، تمتلك نحو 80% من الودائع المصرفية. والأدهى، نحو النسبة نفسها لها من التسليفات الاجمالية. هؤلاء يحكمون الوطن ويتحكمون باقتصاده وعباده. القدامى منهم المنسّلون من بيوتات السياسة والاقطاع والمال. والجدد من بارونات الحرب الذين تخلوا عن ثياب الميليشيات وقفزوا الى هرم السلطة.
“النشيد النقدي” له مروجوه في الاعلام وبيوت الخبرة. ولدى سدنة الهيكل الاقتصادي والسياسي. يختلفون على كل شيء. من صلاح القمح المخصص للاستهلاك البشري، وحبة الدواء، والمناهج التعليمية مروراً بالسياستين الدفاعية والخارجية وصولاً الى معالجة النفايات. لا أحد يتجاسر على مقاربة بيت النقد بالنقد. انه القبو الذي تختبىء فيه مصالح الـ”أوليغارشيا”. وفيه دواء يستطب به كل أصحاب المنافع من كل داء. ولنا في هذا “النشيد النقدي” بعض حقائق:
أولاً: موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية وهي نحو 36.7 مليار دولار أميركي. (15 آذار 2016 بحسب تقرير ستاندرد أند بورز – حالياً أقل -) الطلب على الدولار الأمريكي وغيره من العملات الأجنبية يفترض عملة مقابلة. والحال هنا الليرة اللبنانية. الترويج يقوم على أساس أن “موجودات مصرف لبنان تكفي لتغطية الطلب على الدولار الأميركي والعملات الأجنبية لنحو 70% من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. لو أضفنا احتياط مصرف لبنان من الذهب (أكثر من 11 مليار دولار أميركي بمتوسط سعر الأونصة في آذار 2016) لارتفعت القدرة على تغطية الطلب الى نحو 92%”. هذا بافتراض تحول كل الكتلة النقدية بالليرة طلباً على الدولار الأميركي. وهذه فرضية مستبعدة. مع الاشارة الى أن القانون 42/86 يمنع بلا أدنى لبس، التصرف بالذهب في أي شكل من الأشكال(بيعاّ واستثماراً وتأجيراً). وحسناً جاء القانون.
ثانيا”: موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية ليست احتياطات صافية محررة للمصرف. غالبيتها الأعمّ تعود لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان بينها شهادات إيداع وخلافها بفوائد مجزية فوق متوسط معدلات الفائدة على الدولار الأميركي في الأسواق الدولية. الجزء القليل من تلك الموجودات يمكن تصنيفه احتياطاً صافياً، ولمصرف لبنان حق التصرف به في سوق القطع للدفاع عن تثبيت سعر صرف الليرة. او لسداد فوائد خدمة الدين العام بالعملات الأجنبية أو للتدخل في السوق الثانوية في علاقته التبادلية مع وزارة المال. لا يعلن مصرف لبنان عن الحد الفاصل بين احتياطه المحرر الصافي من الموجودات الخارجية وبين التزاماته تجاه المصارف. لا في بيان “الوضع الموجز” الذي يصدر كل خمسة عشر يوماً ولا في ميزانيته السنوية. مصرف لبنان يعتبر الكشف عن ذلك “كالجيش يكشف عن أسلحته وعديده”.
ثالثاً: يختلف الأمر تماماً لو اعتبر مصرف لبنان أن من حقه التصرف بموجوداته، بما في ذلك العائدة الى توظيفات المصارف في سوق القطع. لو حصل هذا السيناريو فمصرف لبنان يتعامل مع المصارف كتعامل المصرف التجاري مع عملائه. إذ ليس للمودع في المصرف التجاري الذي يتقاضى فائدة على وديعته أن يحدد للمصرف كيفية استثمارها ووجهة تسليفها في السوق، ما دام المصرف ملتزماً سدادها أصلاً وفائدة أجل استحقاقها. سألت سلامة موقفه من هذا الأمر أكثر من مرة. واستخلصت إجابة “حمَالة أوجه”.
نميل الى الاعتقاد أن هذا الشأن الشديد الحساسية تراعى كيفية مقاربته بين سلامة وبين المصارف “لقضاء الحوائج بالكتمان”. بيد أن الأمر يستدعي القول أن توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان هي ودائع والتزامات عليها لعملائها. وفي اعتقادنا أن اتفاقاً ضمنياً قائما بين الفريقين تلتزم المصارف بموجبه عدم المضاربة على سعر صرف الليرة، في مقابل التربح من عائدات توظيفاتها في مصرف لبنان بما يفوق معدلات الفوائد الدولية، بالاضافة الى فوائد مماثلة على توظيفاتها في سندات الخزانة بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية.
رابعاً: في كل الأحوال هناك حدود للدفاع عن النقد وسياسات تثبيت سعر الصرف، تكتسب قوتها من حزمة عناصر أبرزها ثلاثة. النمو الاقتصادي، والتدفقات النقدية الخارجية وميزان المدفوعات والاستقرار السياسي والأمني. ومن سؤ طالع لبنان في هذه المرحلة، أن العناصر الثلاثة مناوئة وفي الاتجاه المعاكس. النمو1% أو بأعشار مئوية منه. والنقد خزين القيمة يعرّف. النمو والاقتصاد يولدان النقد بقيمة مضافة حقيقية. وتنقيد الاقتصاد يولد مرابين وريعاً وزبائنية، ويشرع أبواباً لفساد بلا حدود. ولنا أن نتخيل في دولة بلا رأس، كم هو عميق قاع الفساد. وليس لنا أن نقيم الدليل. لن نسترسل في الأمن والسياسة. نحن في نظام تعطل من العمل. مات سريرياً وشُلت مؤسساته الدستورية. فمن أين يدخل الاستثمار والنمو؟.