لكن التداعيات طالت أيضاً المالية العامة التي رأت نفسها تُساهم في كلفة التصدير عبر البحر. ويعاني القطاع الصناعي اللبناني من تحديات عدة تُهدد وجوده كقطاع أساسي في الماكينة الإنتاجية. أولى هذه التحديات الإستثمارات التي لم تُضخّ في القطاع الصناعي إن بسبب عدم توفر الدعم المالي أو بسبب عدم جدوى الإستثمارات (بحسب رأي أصحاب المعامل) في ظل عدم وجود أسواق لإستقبال الصناعات اللبنانية.
وتُشير أرقام كفالات أن قيمة القروض الممنوحة الى القطاع الخاص هي في إنحدار متواصل مع 170 مليون دولار أميركي في العام 2010، 165 في العام 2011، 138 في العام 2012، 118 في العام 2013، 110 في العام 2014 و93 مليون دولار أميركي في العام 2015.
ليكون بذلك العام 2015 أسوأ عام منذ العام 2007. وتدلّ الأرقام على تراجع شراء المعدات الصناعية في الأعوام الأربعة الأخيرة إلى 243 مليون دولار أميركي مقابل 288 في العام 2012 ما يدلّ على تراجع الإستثمارات.
يأتي في الدرجة الثانية من التحديات ضعف أسواق التصدير بحيث أن زيادة الإنتاج لا يُمكن تصريفها بسهولة وذلك بسبب عدم ملاءمة البضائع للأسواق المفتوحة وعدم إحترام مبدأ المعاملة بالمثل من قبل بعض الأسواق بما يحدّ من القدرة الإنتاجية وبالتالي الإستثمارات في القطاع الصناعي.
وتُشير الأرقام إلى أن الصادرات الصناعية تراجعت بشكل ملحوظ من 3.567 مليار دولار أميركي في العام 2012 إلى 3 مليار دولار أميركي في العام 2015 لتؤكد بذلك تراجع القطاع.
أما في الدرجة الثالثة لتحديات هذا القطاع فتأتي السياسة الضريبية التي لا تُساعد أصحاب المصانع على الإستمرار خصوصاً من ناحية الإنفاق الجاري. فدفع الضريبة يحرم المؤسسة من السيولة وبالتالي إذا تراجع البيع، ستجد المؤسسة نفسها في إلزامية اللجوء إلى المصارف لأخذ قرض. هذه الأخيرة تعمد إلى رفع الفائدة عندما تعرف أن هدف القرض تغطية الإنفاق الجاري.
التحدّي الرابع للصناعة اللبنانية يتمثّل في عدم إعتماد التكنولوجيا بشكل موسّع أكثر في العملية الإنتاجية. هذا الأمر يزيد الكلفة ويمنع عشرات آلاف الشباب اللبناني من العمل في هذه المصانع بحكم أن هؤلاء مؤهلون للعمل في التكنولوجيا في حين أن المصانع تحتاج إلى يد عاملة لا تتطلب مؤهلات عالية لكل موظفيها.
هذه التحديات دفعت بالصناعيين إلى لجم الإنفاق والعمل على خفض الكلفة عبر الخطوات التالية:
أولاً: صرف الموظف اللبناني الذي لا يتمتّع بمهارات عالية على أساس أنه يُمكن جلب عمال سوريين مكانه.
ثانياً: وقف الإستثمارات في إنتظار تحسّن الأوضاع السياسية والأمنية. وهذا ما نسمعه في تصاريح الهيئات الإقتصادية.
ثالثاً: تجميد الأجور أو أقله تخفيض نسبة الزيادة وهذا الأمر له تداعيات على الإستهلاك تمّت ملاحظتها في حجم الإستهلاك في العام 2015.
لكن الإجراءات أخذت أبعاداً كبيرة في العمالة اللبنانية من ناحية أن بعض المصانع عمدت إلى عمليات صرف جماعي كما حصل حديثاً لمصنع في كفرشيما حيث أن ثلاثين لبنانياً من أعمار مُتقدمة تم صرفهم بذريعة الأوضاع الإقتصادية. وتقول المعلومات التي إطلعنا عليها أنه تمّ توظيف سوريين في المصنع نفسه بعد التخلّي عن العمّال اللبنانيين.
من هذا المُنطلق، نرى أن الإجراءات التي يقوم بها الصناعيون هي إجراءات تهدف إلى تقليل الضرر بالنسبة اليهم، لكن الضرر على الإقتصاد عامة هو أكبر بكثير. من هنا إلزامية عمل الحكومة على عدد من الإجراءات الضرورية بهدف مساعدة هذا القطاع والحفاظ على ما يقارب 130 ألف عامل لبناني في هذا القطاع.
هذه الإجراءات تتطلب إجماعا من كل الفرقاء السياسيين على تحييد السياسة على الإقتصاد:
أولاً: وضع سياسة ضريبية تحفيزية لإعفاء بعض القطاعات الصناعية المُتعثرة من الضرائب خلال الفترة الحالية وإلزامها في الوقت نفسه المحافظة على نسبة معينة من العمّال اللبنانيين على أن تقوم بخفض الضرائب مستقبلاً في حال كان هناك خلق وظائف جديدة للبنانيين.
هذا الأمر ليس عنصريا بل أنه نابع من مبدأ أن العمّال الأجانب في لبنان يُرسلون 5 مليار دولار أميركي سنوياً إلى بلادهم. وبذلك يتمّ حرمان الإقتصاد اللبناني من هذه المليارات التي كانت لتقوم بالإقتصاد اللبناني لو تمّ صرفها في الماكينة الإقتصادية.
ثانياً: العمل على تأمين مصادر تمويل للإستثمارات في هذا القطاع. هذه الإستثمارات غير موجودة اليوم وبالتالي لا يُمكن النهوض بهذا القطاع دون إستثمارات لأن التاريخ يُخبرنا أنه لا يوجد إقتصاد ينمو بدون إستثمارات.
وبما أن التحفيزات المالية محصورة حاليا بالصناعة الرقمية، فإن باقي الصناعات لا تستفيد من الأموال في المصارف التجارية والبالغة 152 مليار دولار أميركي. أضف إلى ذلك أن كل صناعي يُريد الإستثمار يتوجب عليه رهن شيء في المقابل، فكيف يُمكنه الإقتراض إذا كان العقار مرهونا من قبل للمصرف؟ من هنا الحاجة إلى الحكومة لتأمين الضمانات.
ثالثاً: العمل على تأمين بنى تحتية صناعية من خلال خلق مدن صناعية تتوفر فيها كل مستلزمات الصناعيين بما فيها توليد الطاقة والإنترنت وغيرها من البنى التحتية الإقتصادية والتي لن يكون لها إلا مفعول إيجابي على خزينة الدولة على المدى الطويل.
ولمن يقول أن هناك كلفة لا تستطيع الخزينة تحمّلها، نقول له إن الدين العام يرتفع حالياً بوتيرة مليار دولار شهرياً وهذا لأن الدولة تفتقد إلى المداخيل ومنها الضرائب على الصناعة التي تختفي في حال كانت الشركة تخسرّ.
رابعاً: العمل على الإطار القانوني عبر بعث الحياة في الإقتصاد من خلال إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص.
إذ من المفروض أن هذا الإجراء إذا ما تمّ القيام به بشفافية كفيل بتوظيف 100 ألف عامل لبناني وتحفيز النمو إلى نسب تزيد عن الـ 6%.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن الإقتصاد اللبناني هو في أشد الحاجة إلى الحكومة وإلى إجراءات تدفع بالماكينة الإقتصادية إلى الأمام علّ هذه الأخيرة تُعوض الخسارة في الخزينة العامة وتُغطّي العجز الناتج عن عشر سنوات من دون موازنة عامة.