كتبت صحيفة “الراي” الكويتية: شكلت زيارة العمل التي بدأها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند امس، للبنان حدَثاً ديبلوماسياً – سياسياً “مرموقاً”، لم تشهد بيروت مثيلاً له منذ إحكام الفراغ قبضته على الرئاسة الاولى بمنع انتخاب رئيس للجمهورية على مدى نحو عامين وفرض ما يشبه الاقامة الجبرية على الحياة السياسية المتهالكة مع الموت السريري للمؤسسات الواحدة تلو الأخرى، كالحكومة العاجزة والبرلمان المشلول.
ورغم التوقعات “الموضوعية” بضآلة النتائج العملية لزيارة الـ 25 للضيف الفرنسي في بيروت، التي يغادرها اليوم، فان الحيوية السياسية التي ضخّها وجود هولاند في العاصمة المأزومة، أعادت الاعتبار لـ “أصل المشكلة” في البلاد الغارقة بملفات فضائحية وأزمات هامشية، وهي المشكلة المتمثلة باستمرار “اختطاف” الاستحقاق الرئاسي.
فبين ساحة النجمة (البرلمان) التي احتفلت بالزائر الرئاسي ونظّمت له حواراً مع ممثلين للكتل البرلمانية، وباحة قصر الصنوبر (مقر السفارة الفرنسية) التي استضافت عشاء عمل مع الزعامات السياسية، والسرايا الكبيرة (مقر رئاسة الحكومة) التي شهدت محادثات رسمية… استمع هولاند وناقش واقترح قبل ان يتوّج “زيارة العمل” بتفقد احد مخيمات اللاجئين اليوم، ثم يغادر.
وبدت زيارة هولاند بلا أوهام، فهو حضّ اللاعبين المحلييين على التقاط الفرصة بالتوافق على رئيسٍ للجمهورية بعدما كان أدرك ان الجهود الديبلوماسية لإدارته في اتجاه طهران والرياض أخفقت في إحداث خرق يتيح إمرار الانتخابات الرئاسية في لبنان، ولم يعد في وسعه الا تشجيع الأفرقاء الداخليين على إطلاق مبادرات من شأنها كسْر المأزق الرئاسي.
وثمة مَن يعتقد في بيروت ان هولاند، الذي سبق ان ناقش الملف الرئاسي في لبنان مع الرئيس الايراني حسن روحاني عندما زار باريس قبل أشهر، على يقين بأن ايران لن تسهل عملية انتخاب رئيس للبنان، وهو كان سمع من روحاني ان ايران لا تتدخل في الشؤون اللبنانية، والأمر بات متروكاً لـ “8 آذار” للمفاضلة بين مرشحيْن من صفوفها (ميشال عون او سليمان فرنجية).
كما أكدت هذا الانطباع التقارير الصحافية في بيروت التي نقلت عن مصدر ديبلوماسي أن اللقاء الذي عُقد قبل 8 ايام في عاصمة أذربيجان (باكو) بين الوزيرين الروسي سيرغي لافروف والإيراني محمّد جواد ظريف، تطرّق في جانب منه إلى الوضع في لبنان وضرورة التعاون لإنهاء الأزمة الرئاسية، الا ان لافروف فوجئ بسلبية ظريف عندما سأله عن مساهمة بلاده في إنهاء الشغور الرئاسي، حيث أجابه ظريف وفق المصدر: “الإنتخابات الرئاسية شأن لبناني لا نتدخّل فيه”.
ويسود اقتناع في بيروت ان الرئاسة في لبنان أصبحت أبعد مما كانت عليه في السابق مع نجاح المملكة العربية السعودية في فرْض المزيد من العزلة الاقليمية على ايران (مجلس التعاون، الجامعة العربية، والقمة الاسلامية). إضافة الى تَعاظُم الحصار على “حزب الله” عبر اتساع دائرة تصنيفه “منظمة ارهابية”، الامر الذي سيُقابل بتشدُّد من طهران والحزب والتمسّك بكل أوراق القوة في محاولة لاستخدامها في التوقيت المناسب لكسْر الطوق عنهما وفق ما تقتضيه تطورات الملفات الساخنة في المنطقة، من اليمن الذي تشهد أزمته محطة مفصلية للحلّ غداً في الكويت، وصولاً الى سورية والعراق.
ورغم هذا الاقتناع، لم يشأ هولاند المجيء الى المنطقة في جولة تشمل الاردن ومصر من دون زيارة لبنان في رسالة دعمٍ عبّرت عنها العناوين التي حضرت على طاولة محادثاته في بيروت، بدءاً من دعم الجيش اللبناني ومناقشة ملابسات تعليق السعودية هبة الـ 3 مليارات التي كانت مخصصة لتسليحه من فرنسا، وصولاً الى الاستقرار الذي يشكل مسألة حيوية لأوروبا والمجتمع الدولي لضمان استمرار لبنان كـ “حاضنة” لنحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري، الى جانب الحضّ، ولو على طريقة “اللهمّ أشهد اني بلّغت”، على وجوب عدم الإبقاء على ربْط الواقع اللبناني بأزمات المنطقة وتوتراتها وتالياً السعي الى قفل الثغرة الخطيرة التي يشكّلها الفراغ الرئاسي، وفق حلولٍ لبنانية.
وبدا واضحاً من شكل الزيارة ان الرئيس الفرنسي قام بها من باب “المجاملة” او “الاضطرار” بغرض التأكيد المزدوج على مكانة لبنان التاريخية لدى باريس كما على بقاء الاهتمام الدولي به ولو من دون اي قدرة على ترجمة ذلك في الملفات اللبنانية العالقة، ومع الاكتفاء بإعلان دعم مالي جديد لـ “بلاد الأرز” لمساعدتها على تحمل عبء النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين الذين “يتوّجونها” البلد الذي يستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم قياساً الى عدد سكانه (يشكلون قرابة النصف).
فمنذ وصول الرئس الفرنسي الى مطار رفيق الحريري الدولي ليكون اول رئيس دولة يزور بيروت في “عهد الفراغ الرئاسي”، مروراً بسائر المحطات الرسمية، برز حرص فرنسي – لبناني مشترك على مراعاة عامل الشغور الرئاسي الذي كان شكّل عائقاً بروتوكولياً امام إتمام الزيارة مرتين سابقاً، الا ان هولاند أصرّ على “القفز فوقه” لعدم القفز فوق لبنان في جولته في المنطقة.
فرئيسا البرلمان نبيه بري والحكومة تمام سلام، لم يلاقيا هولاند (سبق ان زار بيروت في نوفمبر 2012) في أرض المطار حيث لم يُقم احتفال رسمي واكتفى نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع سمير مقبل باستقبال الضيف الفرنسي، مراعاةً لحساسية تظهير ان الرئيسين المسلمين للسلطتين التشريعية والتنفيذية يستقبلان رئيس دولة كبرى في غياب الرئيس المسيحي، وأقام بري لهولاند استقبالاً رسمياً في مقر مجلس النواب حيث فرش السجاد الاحمر وعُزف نشيدا البلدين، فيما كان اعضاء هيئة مكتب المجلس (يمثلون كل الطوائف) وكبار الموظفين اول مَن صافحهم الرئيس الفرنسي قبل ان يُعقد اجتماع مصغر تلاه لقاء موسع، أعقبته جولة لهولاند في أرجاء المجلس للاطلاع على أعماله، ثم زيارة لكنيسة مار جاورجيوس في وسط بيروت والمسجد العمري الكبير.
وبعدها توجّه هولاند الى السرايا الحكومية حيث كان له ايضاً استقبال رسمي ولقاء عمل تلته كلمه للرئيس الفرنسي، وسط تعميم على الصحافيين بعدم طرح اي اسئلة على هولاند المحرج والمربك بزيارة لبنان في ظل غياب رئيسٍ.
وفي “أول الكلام” للرئيس الفرنسي من بيروت، اعلن “اننا نقف إلى جانبكم لأن لبنان محاط بأزمات وحروب وهو يريد أن يعيش في الوحدة والأمن”، ملاحظاً “ان لبنان الذي يعرف الحروب على حدوده يعرف أيضا التهديد الإرهابي فهو استقبل أكثر من مليون وخمسمئة ألف لاجىء وبالتالي علينا أن نؤمن التضامن والتعاون معه”.
وقال في كلمة مقتضبة بعد لقائه بري: “رسالتي بسيطة للغاية فرنسا تقف إلى جانب لبنان وستحرص على تعزيز الأمن في لبنان من خلال التعاون العسكري ونحن نقف إلى جانب لبنان على الصعيد الإقتصادي. أردت زيارة لبنان في هذا السياق الصعب الذي تعيشونه في لبنان، وهي المرة الثانية منذ أصبحت رئيسا للجمهورية الفرنسية”. أضاف: “أريد أن أعود إلى لبنان وأن يقوم باستقبالي رئيس الجمهورية لكن الأمر ليس بيدي والجواب بيد البرلمانيين اللبنانيين، وأنتم عليكم حل هذه الأزمة وهذا سيُعتبر بمثابة مؤشر، وسيشير إلى ما يمكنكم القيام به على رغم مشاكل المنطقة وأنا واثق من أنكم يمكنكم القيام بذلك”.
واختتم اليوم الاول من الزيارة بحفل استقبال للجالية الفرنسية في قصر الصنوبر أدلى خلاله هولاند بخطاب قبل ان يقيم عشاء في المكان نفسه “للقوى الحية في لبنان” ويدلي بكلمة في المناسبة، على ان يستقبل اليوم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وسائر رؤساء الطوائف المسيحية والاسلامية، ليتوجّه بعدها إلى البقاع على متن مروحية ليزور مخيما للاجئين ثم يستقل الطائرة الرئاسية من مطار رياق متجهاً إلى القاهرة.