عصام الجردي
أخطر منتجات الواقع السياسي والاقتصادي والأمني المستجد، العجز المتمادي في التدفقات الخارجية وميزان المدفوعات. الأخير مقياس لكل العملات الأجنبية التي تدخل الى البلد وتخرج منه في أي شكل من الأشكال. الاستثمارات، والتحويلات، الاستيراد والتصدير، والسياحة والحصيلة النقدية والمالية لكل العمليات “مهما تعددت ألوانها”. بما في ذلك سداد ديون خارجية بالعملات الأجنبية وفوائدها. تستوي في ذلك أنشطة الاقتصادي الهامشي أو الموازي، وحصته من الاقتصاد لا تقل عن 35% حداً أدنى. هذا النوع من الاقتصاد يتقدم بتراجع دور الدولة، وتفككك مؤسساتها وطغيان الفساد السياسي. ولا يلغي افتقاره الى القيود الرسمية أثره في الدورة الاقتصادية والنقدية. الحسبة النهائية بين ما يدخل الى البلد من عملات أجنبية، وما يخرج منها في نهاية سنة محددة، هو رصيد ميزان المدفوعات الصافي فائضاً أو عاجزاً.
اتسم ميزان المدفوعات اللبناني إجمالاً برصيد صاف فائض طيلة عقود. كانت التدفقات المالية والرساميل الوافدة تغطي عجزاً مقيماً وكبيراً في الميزان التجاري، لبلد يستورد نحو 65% من استهلاكه الاجمالي حداً أدنى، وتستبقي فائضاً في ميزان المدفوعات للاستثمار والنمو. هذا هو “سر جهاز استيعاب الصدمات” في الاقتصاد اللبناني حتى في حرب الخمسة عشر عاماً. وفي حقب بعدها على تقطع واجه فيها لبنان ظروفاً استثنائية. ومنه استمدت الليرة اللبنانية قوتها، ويسرت لمصرف لبنان سلاحاً للدفاع عنها، ولتثبيت سعر الصرف على نحو 1507.5 ليرة معدلاً وسطاً في مقابل الدولار الأميركي. وفي حال العجز في سنة معينة يعوضه فائض سنة بعدها.
لم يحصل منذ مباشرة مصرف لبنان أعماله في 1964 أن حقق ميزان المدفوعات عجزاً في اضطراد لسنوات ست توالياً بدأت في 2011. كان أثقلها وطأة 3.354 مليارات دولار أميركي في 2015. في حال عدم تبدل المعطيات في 2016، وبقي العجز على وتيرته التي ظهرت في كانون الثاني الماضي بواقع 790 مليون دولار أميركي،( لم تظهر بعد وضعية ميزان المدفوعات النهائية في شباط وآذار 2016. والأرجح انها سالبة ) فسيكون الوضع شديد التعقيد. وتتفاقم الضغوط لو حصلت تحويلات ودائع الى الخارج التي “ينفي مصرف لبنان والمصارف حصولها”. منذ 1990 حتى 2010، أي خلال 20 سنة، حقق ميزان المدفوعات فائضاً تراكمياً صافياً بواقع 30 مليار دولار أميركي، بعد تغطية فواتير الاستيراد وعجز الميزان التجاري، وبعد تنزيل العجز التراكمي في الفترة نفسها بواقع مليارين و671 مليوناً. في حين بلغ العجز التراكمي في 5 سنوات فقط 2011 – 2015 8 مليارات و614.7 مليوناً. أي بزيادة نحو 6 مليارات دولار أميركي. من دون احتساب عُجوز الربع الأول 2016.
أن يؤكد حاكم مصرف لبنان على الدوام استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية أمر طبيعي. فليس في وسعه أن يفعل العكس. وأن يسدل ستائر كثيفة على أرقام احتياطه الصافي من موجوداته الاجمالية، ذخيرته لتثبيت سعر الصرف واستقراره، له ما يسوغه من وجهة نظره على الأقل. وليس لعلة في الشفافية. بما في ذلك عدم الاشارة من قريب أو من بعيد الى تدخل المصرف في سوق القطع بائعاً الدولار الأميركي. لكنه يدرك في المقابل حجم العوامل الطاردة للتدفقات النقدية والاستثمارات والنمو.
التكتم عن تدخل مصرف لبنان في السوق بائعاً الدولار الأمريكي ليس نقيصة. والأمر المنسي عندنا أنه يتم “بالتشاور مع وزير المال” بموجب قانون النقد والتسليف. النقيصة أن نغالي في “النشيد النقدي” لإرواء تربة عطشى من نبع يجف ماؤه. وكأننا نغطي سدنة النظام الفاسد المتهتك، بأن كل شيء في مساره الحميد، وأن استمروا في انحطاطكم السياسي والأخلاقي ولا تأبهوا. “فالصورة بهية زاهية وسددّ الله خطاكم الى خراب البلاد والعباد”! بينما الحقيقة تقتضي العكس.
لا قاعدة تعلو العرض والطلب في تحديد سعر الصرف. كما كل أسعار السلع والخدمات. بيد أن هذه القاعدة ليست قدرية. ففي جلبابها حقيقة مخبؤة تفوقها أهمية. وتكمن في مكونات عوامل العرض والطلب، وحوافزها أو كوابحها في الاتجاهين. في وضع النقد العوامل لا حصر لها، وملازمة دائماً التدفقات النقدية وميزان المدفوعات. أساسها الثقة بالاقتصاد والنمو، والتوازن المالي والسياسات المالية والاقتصادية والنقدية. وبالمؤسسات الدستورية ودولة القانون، وبالاستقرار السياسي والأمني. ومن أسف، أن هذه العوامل لدينا مناوئة وشديدة الخطورة.
حين اضطر مصرف لبنان الى التدخل بائعاً أكثر من ملياري دولار أميركي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، فليستجيب الطلب الذي حركه عامل تصدع الثقة بالرجل الذي أتى بسلامة الى مصرف لبنان، ومنه استمدت الليرة والاعمار وقود الإقلاع من جديد. ومن دون تلك الثقة التي غيرت اتجاه سوق القطع، وحولت مصرف لبنان شارياً العملات الأجنبية لاستحالت سياسة تثبيت سعر العملة. ولا نناقش هنا السياسة الاقتصادية الكلية للرئيس الحريري. فلها وعليها. وفي إثر العدوان الصهيوني صيف 2006، تدخل المصرف بائعاً نحو 3 مليارات دولار اميركي لملاقاة الطلب. وكان للبنان من الثقة التي لم تنضب حتى بعد جريمة اغتيال الرئيس الحريري مؤتمر باريس – 3 – ومعه أكثر من 7 مليارات دولار أميركي. منها حصة كبيرة للقطاع الخاص أدارها مصرف لبنان بفوائد مخفوضة جداً. لم نعرف حتى الساعة من حصل عليها وكيف. وبأية شروط. وماذا كانت قيمتها المضافة الى الاقتصاد.
فائض ميزان المدفوعات (ليس أوان الحديث عن مصادره وألوانه) كان الكعكة الخضراء التي أكل منها المواطن عقوداً واستمثر نمواً. واستبقى للزبائنية أيضاً ما فاض للإهدار والسرقة والمثالب. هذا الفائض تحول الآن “كعكة صفراء” لا يستفاد منها وقوداً ولا طاقة. نحن اليوم في وضع أسوأ مما كنا فيه بعد شباط 2005 وتموز 2006. تقرير “يوروموني” لمخاطر الدول، صنف لبنان بعد موزمبيق وبنغلادش. وإقليمياً قبل اليمن والعراق ليبيا. لسنا على لائحة اهتمام أحد. لا باريس ولا جزر الكايمن ولا الباهاماس! جهاز استيعاب الصدمات” “شيفرة” بدأت ألغازها بالتفكك. و”النشيد النقدي صدر وأفهم علناً”. الحقائق ساطعة. الأراجيف تُروج.