خضر حسان
بعيداً من الشكوك التي يتداولها البعض على أنها حقيقة، والتي تشير إلى أن جهازاً مخابراتياً دولياً وراء كشف “وثائق بنما” التي تقع في نحو 11 مليون وثيقة، فإن تداعيات كشف الوثائق لم تعد قابلة للتغطية، وما يُكشف تباعاً هو أخطر مما كُشف عنه منذ اللحظات الأولى للإعلان عن الوثائق.
فالتداعيات بالنسبة إلى الشخصيات والدول المتورطة بالتهرب الضريبي، ستكون أكثر إيلاماً من كشف فعلة التهرب نفسها، خصوصاً أن دولاً كبرى بدأت تستثمر في كشف الوثائق لتحقيق مكاسب سياسية وإقتصادية. والبحث عن الدور الفرنسي في هذا الإستثمار يوصل إلى أن فرنسا تحاول “قيادة” الدور الأوروبي في التعاطي مع الوثائق والأموال التي غطّتها دول الملاذ الطريبي، وأهمها بنما. والدول ذات الإقتصاد الأقوى في الاتحاد الأوروبي تحاول شق طريق لها نحو النظام المصرفي والمؤسسات المالية في العالم، يمكّنها من إستعادة حقوقها من الضرائب التي تتخفى في الملاذات الآمنة، وهذه المحاولة تأتي في صلب تقوية دعائم قانون “غاتكا”، وهو قانون الإمتثال الضريبي على الحسابات العالمية. فالأوروبيين يريدون مراقبة الحسابات العالمية والإستفادة من نتائج هذا التعميم، على عكس القانون الأميركي (فاتكا) الذي يحصر رقابته بحسابات الأميركيين والمقيمين في الولايات المتحدة.
الدور الفرنسي في هذه العملية يمكن التماسه من خلال حث فرنسا دول الـ20 على تبني تنظيم لائحة سوداء تضع فيها الدول التي تعتبرها غير ملتزمة بالشفافية وبخطوات إقتصادية تطلبها منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية OECD. وستعقد الدول الـ20 اجتماعاً في شهر تموز المقبل سيتقرر على إثره اللائحة السوداء التي يرجح أن تضم لبنان وبنما وأرخبيل فانواتو، إذ إن هذه الدول الثلاث لا تلتزم بمبدأ الشفافية وتسهيل تبادل وتدفق المعلومات. على أن عرّاب اللائحة السوداء هو وزير المال الفرنسي ميشال سابان.
لكن قبل اللائحة السوداء، تدفع فرنسا دول الاتحاد الأوروبي إلى تبنى لائحة رمادية تضم دولاً مرشحة لتكون ضمن اللائحة السوداء، ومنها الدول الثلاث. وهذه اللائحة الرمادية هي ترجمة فعلية لما إتفق عليه في العام 2007 بين الدول الأوروبية. وسوف تُوضع اللائحة حيز التنفيذ بين العامين 2017 و2018.
وبالنسبة إلى لبنان، فإن وضعه في اللائحة الرمادية أو حتى في اللائحة السوداء، ينعكس من الناحية النظرية بشكل سلبي على وضعه المالي والنقدي، إذ إن أي “هزة” للثقة بالمصارف والمؤسسات المالية، ستكبد البلد خسائر مالية وإقتصادية. لكن من الناحية العملية، فإن ما جاء في صحيفة “لوموند” عن عزم الدول الـ20 على وضع اللائحتين الرمادية والسوداء، وإمكانية إدراج لبنان ضمنهما، قد فات أوان الحديث عنه. فما تم تسريبه ضمن الوثائق، أصبح بلا قيمة لأن لبنان أعلن في تشرين الثاني 2015 إلتزامه بمطالب منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية. وبالتالي فإنه حكماً غير معني باللائحة السوداء، وما نُشر في الوثائق مجهول التاريخ، وهو بلا شك يعود إلى ما قبل إعلان الإلتزام، وفق ما يقوله لـ”المدن” مدير وحدة الدراسات في “بنك بيبلوس” نسيب غبريل.
وعن الإهتمام الفرنسي الخاص، والأوروبي العام، بالوثائق لجهة التشديد على دول الملاذات الضريبية، يقول غبريل إن بعض الدول الأوروبية تشهد عجزاً في موازناتها، والتشديد على مكافحة التهرب الضريبي يؤمن لهذه الدول إيرادات جديدة من خلال تحصيل الضرائب، فضلاً عن أن مكافحة التهرب الضريبي أمر مهم قانونياً، أي إن هذه الدول تقوم بأمرين متوازيين.
غير أن إلتزام لبنان قانونياً، لا يعني أنه لم يعد ملاذاً آمناً للأموال العالمية، لأن السرية المصرفية فيه تضمن للأموال العالمية خطاً آمناً للتهرب من ضريبة البلد الأم. والدول الكبرى تسعى لرفع السرية المصرفية عن الحسابات العالمية لضمان إستفادة مادية وسياسية وإقتصادية.
هنا يُطرح تحدٍّ أمام السرية المصرفية اللبنانية وإمكانية إلغائها، وإنعكاسات ذلك على المستوى الإقتصادي الداخلي، والسياسي العالمي، إنطلاقاً مما ستخلقه مراقبة الحسابات من أوضاع وترتيبات جديدة.