كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
أصبحت الإنتخابات البلدية أمراً واقعاً بعدما تأرجح كثيراً قرار إجرائها خلال الاسابيع الماضية.
لا حاجة للتأكيد أنّ القوى السياسية الاساسية تدخل هذا الاختبار الديموقراطي رغماً عنها، وكلّ منها لظروفه وحساباته الخاصة.
1 – تيار “المستقبل” بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تحاصره منذ سنوات عدة، أضف الى ذلك، الخضّات والهزات الداخلية الكثيرة التي أحدثت تفسّخات في قاعدته الشعبية.
2 – الثنائي الشيعي “حزب الله” وحركة “امل” والذي يدرك أنّ احدى أبرز نقاط ضعفه، هي نزاع وتنافس العشائر والعائلات، أضف الى ذلك انشغال قيادة الحزب بالحرب الدائرة في سوريا وملفات المفاوضات المفتوحة على شتى الاحتمالات التي تتطلب تركيزاً على أدق التفاصيل.
3 – النائب وليد جنبلاط الذي يرعى المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها زعامة آل جنبلاط في الجبل من خلال العمل على تأمين توريث نجله تيمور بأكبر مقدار من الاستقرار وأقلّ مقدار من الهزات.
وفتح ملف الانتخابات البلدية وسط الظروف الحالية ولا سيما بعد التحالف بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” يرفع مستوى التحدي لناحية إعادة الوزن للصوت المسيحي في الجبل وتهديد أحادية القرار الذي لطالما نَعم بها جنبلاط منذ انتهاء الحرب الاهلية. أضف الى ذلك تصاعد النزاعات بين العائلات الدرزية، خصوصاً أنّ هذه المجتمعات تتميّز بخصائل اولاد الجبل القائمة على التنافس العائلي.
4 – تبقى الثنائية المسيحية المستجدة على رغم أنها كانت من اكثر المتحمسين لهذا الاستحقاق سعياً وراء إثبات قوة التحالف وشطب القوى والزعامات الاخرى أو تحجيمها، وبالتالي السيطرة في مرحلة لاحقة على اتحادات البلديات تمهيداً لطرح مشاريع سياسية مستقبلية.
لكن ومع التوغل أكثر في تفاصيل التحضير للمواجهات البلدية اكتشف الثنائي الحزبي المسيحي أنه وقع في تقويم خاطئ، وأنّ العامل العائلي والحساسيات المحلية أقوى بكثير من العناوين السياسية العريضة، ما دفعه الى التراجع خطوات الى الوراء ومدّ يد التعاون مع القوى المحلية في بعض المناطق، وهو ما يعني ضمناً الاعتراف بوجودها.
في المقابل، سَعَت قوى أخرى الى إقفال مناطقها لإغلاق باب مفاجآت محتملة سيعمد خصومها الى استثمارها في السياسة مثلما فعل تيار “المردة” في زغرتا.
خلال الاسابيع الماضية، وتحديداً منذ الشروع في الاجراءات الادارية المطلوبة لإطلاق المسار القانوني للاستحقاق البلدي، حصل تواصل بين عدد من الاطراف الاساسية التي تفضّل التمديد للمجالس البلدية الحالية وعدم الدخول في “وجع راس” الانتخابات على رغم النفي الذي تبرّع البعض بإعلانه حول عدم حصول أيّ طلب في هذا الاطار، لكنّ الكواليس السياسية كانت تضجّ بالنقاشات التي تتمحور حول إمكانية وطريقة إلغاء الانتخابات.
لكنّ المشكلة الاساس كانت في الفريق الذي سيتولى المسؤولية العلنية في التمديد للبلديات تحت ذرائع مختلفة راوحت بين الادارية والامنية. والعارفون يقرّون أنّ كل طرف كان يحاول إغراء الاطراف الاخرى بتولّي مسؤولية التعطيل وتحمّل عواقبه الشعبية، حتى وجَد الجميع أنّ الوقت سبقهم وأنّ الانتخابات أصبحت أمراً واقعاً.
لكن ثمّة سبباً جوهرياً آخر ساعد في طيّ فكرة إلغاء الانتخابات، فتيار “المستقبل” الذي يدرك جيداً أنّ الوقع السياسي للانتخابات البلدية يتركّز في المدن الثلاث الكبرى، أي في العاصمة بيروت ومدينتي طرابلس وصيدا، وجَد من يساعده على تشكيل لوائح ائتلافية تبعد عنه إحراج المواجهة القاسية وغير المضمونة.
ففي صيدا، تدخلت شخصية رسمية وازنة ساهمت في جمع تيار “المستقبل” مع “الجماعة الاسلامية” إضافة الى إقناع رئيس البلدية الحالي محمد السعودي بالترشح مرة جديدة.
وفي طرابلس كانت المشكلة أصعب، لكن جاء من فتحَ التواصل بين تيار “المستقبل” والرئيس نجيب ميقاتي والنائب محمد الصفدي، وهذا التواصل أنتج تفاهماً على لائحة واحدة.
ومع ضمان التوافق في هذه المدن الثلاث، ترك تيار “المستقبل” التنافس البلدي في بقية البلدات والقرى في إطار التنافس العائلي، معلناً عدم تدخّله. ووفق هذه الصيغة أضحَت حساسية “المستقبل” أقلّ على إجراء الاستحقاق البلدي.
لكنّ كل ذلك لا يعفي من اسئلة سياسية لا تزال تنتظر اجوبة حولها، مثلاً: كيف سيقترع تيار “المستقبل” في بعض الدوائر الحساسة مثل زحلة؟ وكيف سيقترع “حزب الله” بدوره؟ وهل صحيح أنه سيكتفي بالتصويت لمرشح “التيار الوطني الحر” من دون سواه؟
كيف ستقترع الكتلة السنية في بيروت حيث لا تزال الكلمة الفاصلة لـ”المستقبل”؟ وهل ستشهد اللائحة في بيروت تشطيباً وكلمات سر؟ وكثير من الاسئلة الاخرى التي ستعطي مؤشرات سياسية مبكرة.
ذلك انّ الجميع بدأ يحتسب للانتخابات النيابية المقبلة والتي تبدو حاصلة في أيار من العام المقبل. وبعيداً عن الجدل الداخلي حول وجوب عدم حصول هذا الاستحقاق إلّا في ظل وجود رئيس للجمهورية، الّا انّ إتمام الاستحقاق البلدي يجعل من الصعوبة في مكان عرقلة الاستحقاق النيابي.
وفي الكواليس السياسية كلام كثير عن الانتخابات النيابية على هامش الانتخابات البلدية، ذلك أنّ القوى الاساسية باتت تدرك أنّ إقفال صناديق الاقتراع في البلدية ستعني بدء العد العكسي للانتخابات النيابية، ولذلك يتصاعد النزاع حول قانون الانتخابات.
وأخيراً، أبلغ تيار “المستقبل” الى قيادة “حزب الله” أنه يرفض رفضاً باتاً اعتماد قانون النسبية، لأنه يعني ضمناً شطب “المستقبل” من الحياة السياسية اللبنانية وهو ما سيدفعه الى مواجهة هذا الواقع بكل الوسائل المتاحة.
ووفق هذه الصورة، بات “حزب الله” يدرك أن لا حظوظ لإقرار قانون انتخابات على اساس النسبية، لكنّ قيادة الحزب أرسلت في المقابل الى تيار “المستقبل” ان من الظلم السير في القانون الحالي وأنّ الحل ربما يكمن في القانون المختلط. وتشير المعلومات الى أنّ قيادة “المستقبل” وعدت بدرس هذا الخيار ولو من دون الالتزام المسبق به.
لكنّ المطلعين على النقاش الدائر حول قانون الانتخابات يدركون تماماً المصاعب الكبرى التي تعترض ولادة قانون وفق صيغة المختلط، بدءاً من عدد الدوائر مروراً بالمقاعد الواجب إخضاعها للاقتراع النسبي وتلك الخاضعة للاقتراع الاكثري، وانتهاء بحسابات التحالفات التي ترتكز على الانقسام السياسي المعروف.
فمثلاً يرفض جنبلاط رفضاً قاطعاً إدراج عاليه مع بعبدا في دائرة واحدة، فهو يريد الهروب من الكتلة الشيعية، إضافة الى انه بات يحتسب للاقتراع المسيحي.
وفي المقابل لا يبدو مشروع القانون المختلط الذي توافق عليه “المستقبل” و”القوات”، أيام التحالف الذي كان يجمعهما، صالحاً وفق المعطيات الحالية المستجدة. كما أنّ التباين المسيحي حول إعداد الدوائر وطريقة تقسيمها لا يزال قائماً.
في المحصّلة، سيشكّل الاستحقاق البلدي مدخلاً لمسار انتخابي طويل لن ينتهي قبل حزيران 2017 ، أي بعد سنة من الآن، ما سيعني وضع الاستحقاق الرئاسي جانباً في انتظار الخريطة السياسية الجديدة التي سيرسو عليها المجلس النيابي المقبل. إلّا اذا حصل تطور كبير خارج عن الحسبان وأدى الى فرض انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبنحو مفاجئ.
صحيح أنه لا توجد أي مؤشرات في هذا الاتجاه الآن، لكننا في نهاية الامر في لبنان حيث المفاجآت غير المحسوبة تحصل دائماً وتاريخنا شاهد على ذلك.
في الانتظار، إنّ أفكاراً كثيرة ستطرح، على غرار ما هو حاصل الآن مع “رئيس السنتين”. صحيح أنّ هذا التصور صادر عن جهات داخلية جدية، لكنه يفتقر الى الاحتضان الجدي أكان على مستوى القوى المعنية أم على مستوى القرار الخارجي.