كتبت صحيفة “الأنباء” الكويتية:
فاجأ الرئيس نبيه بري الجميع وكانت له «مفاجأة مزدوجة»: الأولى عندما عقد مؤتمرا صحافيا، وهو نادرا جدا ما يفعل ذلك إلا في حالات استثنائية وأوضاع مفصلية حساسة.. والثانية عندما ذهب في الاتجاه المعاكس للتوقعات ولمواقفه في الأيام الأخيرة وطرح مبادرة جديدة تخالف المبادرة التي طرحها على طاولة الحوار الوطني.. الرئيس بري كان تقدم قبل أيام بمبادرة لعقد جلسة تشريعية تحدد جدول أعمالها هيئة مكتب المجلس ويطرح في خلالها إعادة النظر بقرار سابق لمجلس النواب قضى بعدم إقرار قانون الانتخابات قبل انتخاب رئيس الجمهورية.
وأمهل بري أقطاب الحوار أسبوعا لدراسة مبادرته بإيجابية وبما يفتح الطريق أمامه للدعوة فورا الى عقد جلسة تشريعية لإقرار المشاريع الضرورية، وبعد ذلك عقد جلسة مخصصة لقانون الانتخابات قبل نهاية العقد العادي الحالي.. ولكن لم يتأخر الوقت حتى صدرت اعتراضات مسيحية متوقعة: تكتل الإصلاح والتغيير وكتلة القوات اللبنانية لا يحضران جلسة تشريعية لا يكون على رأس جدول أعمالها قانون الانتخابات الذي له علاقة مباشرة بعملية إعادة تكوين السلطة، وكتلة الكتائب ملتزمة بموقف مبدئي دستوري اتخذته منذ بداية الشغور الرئاسي وهو أن مجلس النواب يتحول بعد شغور رئاسة الجمهورية الى هيئة ناخبة لا صلاحية ولا أهلية تشريعية له.. ومع صدور هذه الاعتراضات صدرت إشارات من عين التينة تؤكد على عقد جلسة تشريعية تتوافر لها أكثرية نيابية، وأن الرئيس بري مصمم على ذلك انطلاقا من أن مصالح الناس والبلد فوق أي اعتبار بعدما كان أكد خلال جلسة الحوار «لا يزايدن أحد علي في موضوع الميثاقية وأنا أكثر من راع لها.. ولكن لا تحرجوني فتخرجوني».. ما حصل أن الرئيس بري «أحرج» ولكنه خرج ليس في اتجاه هجومي والى الأمام، وإنما في اتجاه تراجعي والى الوراء.. ولو كان هذا التراجع «تكتيكيا» بهدف احتواء الوضع والحؤول دون خروجه عن السيطرة السياسية.. المبادرة الجديدة التي طرحها بري وشكلت تراجعا عن المبادرة التي طرحها على طاولة الحوار، قضت بتجميد الدعوة الى جلسة تشريعية، وإعطاء الأولوية لقانون الانتخاب بإحالة كل مشاريع واقتراحات قوانين الانتخاب الى اللجان النيابية المشتركة قبل الدعوة الى جلسة تشريعية، ولم يكن الرئيس بري ليقدم على هذه الخطوة التراجعية الاحتوائية لولا جملة أسباب وعوامل تضافرت وحاصرت مبادرته التشريعية وحملته على تعديل وجهته ومراجعة حساباته ومن أبرزها:
1 ـ موقف الكتل المسيحية الأساسية (التيار والقوات والكتائب) التي أظهرت استعدادا للسير حتى النهاية في موقفها المعترض على «التشريع» والمتمسك بأولوية قانون الانتخاب.. ومقابل هذا الموقف المتشدد، لم يتوافر موقف مسيحي مضاد من جانب المسيحيين المستقلين وبغطاء من بكركي يوجد حد أدنى من غطاء مسيحي مفقود للجلسة التشريعية، لا بل بدا ميل واضح لدى نواب مستقلين الى مراعاة ومجاراة الموقف المسيحي العام، فالبعض أبلغ بري بأنه لن يحضر والبعض الآخر ناشده عدم الدعوة الى جلسة تشريعية تشكل إحراجا لهم وتصعيدا للوضع.
2 ـ موقف كتلة المستقبل التي قررت، بعد تأرجح، التزام تعهد كانت قطعته للقوات اللبنانية في تشرين الأول الماضي (عندما عقدت جلسة تشريعية يتيمة أدرج عليها قانون استعادة الجنسية) بعدم المشاركة في أي جلسة لا يكون قانون الانتخاب على رأس جدول أعمالها.
3 ـ موقف حزب الله الذي يخوض مواجهة كبيرة في المنطقة ويحكم سياسته الداخلية عاملان: الاستقرار الذي هو في صلب أهداف الحوار وحكومة الشراكة مع المستقبل، والحالة المسيحية الحليفة له عبر العماد عون والتي لا يريد خسارتها وإضعافها.
والحزب يهمه تنظيم الخلاف بين حليفيه، بري وعون، وعدم حصول اصطدام بينهما.. في الدلالات والمعاني المترتبة على «مبادرة بري 2» (فتح ملف قانون الانتخاب) بعدما وضعت «مبادرة بري 1» جانبا (فتح المجلس) يجدر التوقف عند استنتاجين أساسيين:
٭ الأول أن واقعا سياسيا جديدا قد نشأ، وأن تغييرا في قواعد اللعبة قد حصل بعد اتفاق معراب بين عون وجعجع.
فلم يعد ممكنا تجاهل أو تجاوز هذا التحالف وتأثيراته، خصوصا انه يذهب الى أبعد من رئاسة الجمهورية، والى أبعد من «تفعيل التشريع» الذي يريده بري ليطرح مسألة تفعيل وتحسين الوضع المسيحي في الحكم والدولة.
الاتفاق المسيحي حاصل على أن قانون الانتخاب هو الممر الإجباري لهذه العملية والبند الأول في خريطة الطريق الى استعادة الدور والحضور والتوازن.. وحاصل أيضا على أن هذا هو الوقت المناسب للحصول على قانون الانتخاب، فإذا لم يكن الضغط مجديا من أجل الإفراج عن رئاسة الجمهورية الواقعة تحت تأثيرات إقليمية، فإنه سيكون ممكنا ومجديا من أجل إصدار قانون الانتخاب.. يضاف الى ذلك أن ما هو ممكن ومستطاع حاليا قد لا يكون كذلك عندما تتوافر ظروف التسوية السياسية الشاملة التي ستجري أساسا بين السنة (المستقبل) والشيعة (حزب الله).
٭ الثاني أنه مع انتهاء مرحلة 8 و14 آذار باعتراف الرئيس بري الذي نعى الفريقين السياسيين وأعلن أنهما في حال «موت سريري»، فإن الخارطة السياسية الجديدة أصبحت موزعة، طائفيا لا سياسيا، بين 3 لاعبين أساسيين: شيعي (حزب الله) سني (المستقبل) مسيحي (ثنائية عون جعجع).
هذه الخارطة الجديدة أوجدت توازنا جديدا وقواعد لعبة جديدة:
ـ من جهة أدت الى ازدياد تأثير العامل المسيحي وحضوره في المعادلة بعدما كان موزعا بين محورين وقوتين، وبالتالي فإن تحالف معراب نجح في إقامة سد في وجه عملية انتخاب فرنجية، وينجح الآن في فرض قانون الانتخاب على جدول أعمال المرحلة، مع العلم أن مكان النقاش الطبيعي في شأنه هو «الحوار الوطني».
ـ من جهة أخرى، أدى الوضع الجديد الى تراجع ملحوظ في قدرات بري السياسية لجهة التحكم باللعبة وإدارة دفتها.
فلم يعد بري يمتلك وحده مفتاح التحكم وقدرة السيطرة على الوضع، حتى قدرة اجتراح المخارج وإخراج «الأرانب».. الرئيس بري فقد «سحره» وأوهنته الضغوط والمتاعب على أنواعها.. مثلما أوهنت حليفه وليد جنبلاط الذي أعلن قرفه ويأسه ورغبته في التقاعد السياسي المبكر.. جنبلاط الذي كان قوة مرجحة عندما كان الانقسام بين 8 و14 آذار، لم يعد كذلك عندما صار الانقسام بين 3 كتل طائفية.
وربما يأخذ اللاعب المسيحي في هذه الفترة دور جنبلاط كعامل توازن وترجيح في الانقسام والصراع السني ـ الشيعي، وهذا سبب إضافي يحث المسيحيين على فتح معركتهم المطلبية بأن يأخذوا من الطرفين لحسابهم، قبل أن يصبح اتفاق الطرفين على حسابهم.