كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
في لبنان، الموقَّت يُصبح دائماً. ومع ذلك، يُصرّ المسيحيون على «الدلع»: «بسيطة، فليكن الفراغ الرئاسي. إنه موقّت. وغداً، سيتعب الآخرون ويقبلون برئيسٍ قوي، من الأقطاب»! وعلى الوعد، ينقضي العام الثاني على الفراغ. فلا تَعِبَ المسيحيون من المراهنة، ولا تعِبَ الآخرون من الانتظار.في الأيام الأخيرة، جلس البيّاعون والشارون في سوق المقايضات ليتبادلوا البضائع: الانتخابات البلدية والتشريع وقانون الانتخاب وسوى ذلك. وقد يتوافقون هنا ويختلفون هناك. لكنّ البضاعة الكاسدة منذ سنتين، رئاسة الجمهورية، ليست على الطاولة.
بَعد «سنتين فراغ»، شائعات عن «سنتين رئاسة»! ويبدو الكرسي، الذي هو رمز السيادة والوحدة، وكأنّه مادة اختبارية، أو فأر اختبار. وغداً، إذا جرى انتخاب رئيس جديد، أيّاً يكن، ولو «سوبرمان»، فأيّ هيبة ستكون لرئاسته عندما لا يبقى أحد في العالم إلّا وأدلى بدَلْوِهِ فيها، وأيّ سلطة ستكون للرئيس عندما لا يبقى أحد إلّا وجرى توسيطُه لتسهيل الانتخاب.
على مسافة عامين من الفراغ، يتكرَّس فقدان موقع رئاسة الجمهورية واقعياً، كما الكثير من الظواهر «الواقعية» المرشَّحة لتكون دائمة في لبنان.
فمن «الواقعية» مثلاً، أنّ الاستحقاقات الدستورية، كالانتخابات النيابية والرئاسية يمكن تأجيلها، وأنّ المؤسسات الدستورية تتجاوز العمل الدستوري لتتشكل فيها أعراف غير مألوفة وسوابق.
ومن «الواقعية» مثلاً، أنّ الحكومات اللبنانية تآلفت مع السلاح «شبه الشرعي» اللبناني وغير اللبناني، واعتادت على وجود مليوني نازح سوري ونصف المليون فلسطيني بلا أفق للحلّ لا في سوريا ولا في فلسطين، واعترفت بحقّ قوى لبنانية في أن تقاتل على ضفتي الحرب في سوريا!
ومن «الواقعية» التي تتكرَّس أنّ التسويات المرحلية في لبنان تتجاوز المسيحيين، من الحلف الرباعي عام 2005 إلى الدوحة وكلّ تركيبة الحكومات في الأعوام الـ11 الفائتة.
و«الواقعية» في «عيد» خروج القوات السورية، 26 نيسان 2005، أنّ السوريّين خرجوا عبر الحدود… لكنهم استمروا في الداخل، أو عادوا، بشكل أو بآخر، على طريقة هيتشكوك في فيلم «الطيور».
إذاً، لأنّ رئاسة الجمهورية ذاهبةٌ في اتجاه الزوال «واقعياً»، فعلى المسيحيين الحريصين على الجمهورية و«الرئاسة الوحيدة لمسيحيٍّ في الشرق الأوسط»، أن يتحرّكوا لـ«إنعاشها»، وتدارك الوصول إلى مرحلة تصعب فيها العودة إلى الوراء.
وينقسم قادة المسيحيين، في نظرتهم إلى «إنعاش» موقع الرئاسة، بين وجهتي نظر:
– الأولى يتبنّاها العماد ميشال عون وتقول إنّ رئاسة الجمهورية، بعد «الطائف» وإفراغها من صلاحيات حيوية، وبعد التنفيذ الاستنسابي للاتفاق، باتت في حكم الميتة سريرياً. وتالياً، إنّ الشغور الرئاسي مهما طال يبقى أفضل من وجود رئيس- دمية.
– الثانية يتبنّاها آخرون من «8 و14 آذار» ومن مستقلين، وتقول بأفضلية انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم إبقاء الموقع شاغراً بأيّ ثمن، لأنّ الفراغ في ذاته خطِر على التوازن الميثاقي.
وفي ظلّ هذا التأرجح بين الموقفين، حصل خلط للأوراق داخل كلّ معسكر:
1- ترشُّح النائب سليمان فرنجية في وجه عون شقَّ معسكر القائلين بنظرية «الرئيس المسيحي القوي».
2- تبنّي «القوات اللبنانية» لترشيح عون شقَّ معسكر القائلين بنظرية «الرئيس المسيحي التوافقي» إذا تعذّر إيصال أحد الأقطاب. و«القوات» كانت نادت بإنتخاب الرئيس توافقياً عندما أعلن الدكتور سمير جعجع استعداده للانسحاب من المعركة، «إذا تمَّ التوافق على رئيس يؤمن بالحدّ الأدنى من ثوابتنا».
وفي اعتقاد كلٍّ من فرنجية وعون أنه قادر على إنهاء الفراغ الرئاسي، لأنه يجمع صفة الرئيس التوافقي والرئيس القوي في آن معاً. لكنّ هذا الخلط المسيحي للأوراق لم يقدِّم شيئاً لتسهيل الانتخاب. فلا فرنجية أقنع الآخرين، ولا عون وجعجع. والمعادلة إياها مستمرة منذ عامين، ولكن باختلاف في التكتيك هنا وهناك.
لذلك، الفراغ الرئاسي مرشّح ليطول أشهراً أخرى، وما المانع من أن تكون سنوات أخرى، ما دام شيء لا يتغيّر في جوهر معادلة التعطيل؟ وإذا استمرّ الفراغ الرئاسي لمدّة أطول، فسيكون ذلك تكريساً لضياع الرئاسة. و»مزحة» أنّ الرئيس ميشال سليمان ربما يكون الرئيس الماروني الأخير للبنان «سمجة»، ولكنها تدعو إلى التفكير!
إذاً، التسوية المطلوبة حول الرئاسة هي التي تقوم بين المسيحيين أنفسهم أولاً، وتجمع بين منطقين: ضرورة المجيء برئيس يحظى بدعم المسيحيين لجهة إعادة الحضور إلى موقع الرئاسة، وضرورة المجيء برئيس يحظى بتوافق السنّة والشيعة والدروز أيضاً.
والمنطقان لا يتناقضان، إلّا إذا كان هناك افتراض مسبق بأنّ غير المسيحيين في لبنان لا يريدون رئيساً مسيحياً قوياً. وهذه الفرضية ستكون فضيحة وطنية إذا تبيّن أنها في محلّها!
ولكن، أيّاً تكن الحال، فالقادة المسيحيّون مسؤولون عن استمرار الفراغ في الرئاسة، وهم قادرون على إنهائه، إذا تمّ الجمع بين منطق فرنجية ومنطق عون وجعجع ومنطق رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل القائل برفض انتخاب رئيس من «8 آذار». فالتكامل ممكن بين الطروحات المسيحية كافة.
وسيناريو الحلّ الواقعي والمباشر لأزمة الرئاسة هو الآتي: أن يجتمع القادة المسيحيون جميعاً، من «8 و14» والوسط والمستقلين، في بكركي مثلاً، ويخرجوا بإسم مرشَّح واحد، أو اثنين يتمتعان بقوة الشخصية والاعتدال والانفتاح ونظافة الكفّ، ويجري إعلانهما في بيان رسمي، وبإجماع مسيحي لا يقبل التأويل.
وعندئذٍ، لن تكون أمام الشركاء إلّا الموافقة على هذا الخيار المسيحي الشامل، وانتخاب المرشح الذي سمّاه المسيحيون أو أحد المرشحين اللذين سمّاهما المسيحيون، لأنّ هؤلاء الشركاء جميعاً يقولون: فليتفق المسيحيون على رئيسٍ للجمهورية ونحن نمشي معهم!
في هذه الحال وحدها، يكون الرئيس منسجماً في آن معاً مع طرح الرئيس المسيحي القوي، لأنّه يكون ممثلاً لجميع المسيحيين ويحظى بدعمهم. وفي الوقت عينه، هو يحظى بتوافق الشيعة والسنّة والدروز لأنّه لا يمثّل طرفاً سياسياً أو حزبياً مسيحياً ضيقاً. وفوق ذلك، هو معروف باعتداله وانفتاحه وخبرته ونظافة كفّه.
هذا الرئيس- ولا أحد سواه- يمكن انتخابه وإيصاله إلى بعبدا واقعياً لا في الأوهام، اليوم وليس غداً، فيكون قوياً بدعم مسيحي إجماعي، ويحقّق للمسيحيين ما لا يستطيع تحقيقه رئيس يجري تصنيفه إمّا متحدّياً للسنّة أو الشيعة… وإمّا ممالئاً للسنّة أو للشيعة لكي يحظى بالرئاسة!
في «جناز السنتين» لرئاسة الجمهورية، هناك خرافات يطلقها بعض زعماء المسيحيين ويجدر أن يتوقّف الجمهور عن تصديقها، وأبرزها أنّ الرئاسة تُصنع في الرياض وطهران، ويسمح بها الأميركيون، ويباركها الفرنسيون والفاتيكان، ويتولّى السنّة والشيعة تنفيذها. فالرئاسة تصنعها مبادرة لبنانية مسيحية قوية، ولا يمكن لأحَد نقضها، لا في الداخل ولا الخارج.
لم يكن العماد ميشال عون يقتنع كثيراً بأنّ حلفاءه لا يريدون الانتخابات الرئاسية الآن، ولو كان حليفهم عون أو فرنجية هو الرئيس. واليوم، ربما بات أكثر اقتناعاً.
وكذلك، فليجرِّب المسيحيون تسمية رئيس الإجماع المسيحي، فيكشفوا إذا كان الحلفاء هنا وهناك يناورون بدعم «المرشح الذي يتفق عليه المسيحيون». فإذا ظهرت خرافة جديدة هنا، يكون لكلّ حادث حديثٌ.
إنّ أسوأ ما يقوم به قادة المسيحيين هو «النّق» والبكاء على الأطلال والصراخ رفضاً لـ»الرئيس الذمّي». وهذا الرفض ضروري بل مطلوب، لكن هناك خريطة طريق محدّدة لإيصال الرئيس المسيحي «غير الذمّي»، وهي حتماً ليست في المماحكات المملّة الجارية اليوم، والتي يستغلّها هذا الطرف وذاك لتعطيل الانتخابات.
خريطة الطريق التي توصل إلى الهدف عملانية لا نظرية. وأما بقاء المراوحة فيوحي بأنّ بعض القادة المسيحيين، من أصحاب الرؤوس الحامية، هم الذين يقتلون الرئاسة- قصداً أو بغير قصد- ويسيرون في جنازتها!