IMLebanon

اقتصاد بلا شعب: البلد كلّه سوق حرّة

syrian-refugees-in-lebanon-new
ليس امرا عابرا أن يرفض مجلس الوزراء تركيب عدادات الكهرباء في مخيّمات اللاجئين السوريين بحجّة عدم تثبيت وجودهم في لبنان! أكثر من 2000 مخيّم عشوائي قائم بالفعل في لبنان وتحصل على الكهرباء (وغيرها) بطرق غير شرعية، تصل كلفتها إلى 300 مليون دولار. أما قرار الحكومة اللبنانية، فهو تجاهل هذا الواقع، تجاهل وجود هذا العدد الهائل من اللاجئين والاكتفاء باستجداء الأموال بحجّتهم!

محمد وهبة

سواء اعترفت الحكومة ام لم تعترف، فان الأسر السورية اللاجئة في لبنان تحصل على الخدمات العامة بالطريق المتاحة، سواء كانت شرعية أم غير شرعية. تستفيد هذه الأسر من المياه والكهرباء والصرف الصحي والساتلايت والانترنت والاتصالات… لكن رغم كل ذلك تتعامل الحكومة معها كأنها غير موجودة.

ألا يعلم الوزراء أن هذه الأسر تعمل في لبنان أيضاً؟ أليس هناك اسر سورية لاجئة تستأجر المسكن في لبنان وفيه «عداد» كهربائي و«عيار» مياه و»اشتراك» مولّد أيضاً، فضلاً عن الهاتف الثابت والخلوي؟ ما معنى قرار مجلس الوزراء رفض تركيب عدادات الكهرباء في المخيمات؟ لمَ هذا التمييز؟ الحجّة التي تساق دائماً هي التوطين، أي إن تقديم الخدمات العامة الشرعية تترك انطباعاً أنه يجري تثبيت وضع هذه الأسر في لبنان! أما الحلّ، فهو أسوأ من المشكلة نفسها: التجاهل وترك هذه الاسر تستهلك الخدمات بطرق غير شرعية!
هكذا هو العقل الذي يدير الشأن العام في لبنان، يقول الوزير السابق شربل نحاس ان «هذه عيّنة تعبّر عن واقع أن اللبنانيين لا يريدون الاعتراف بالمشكلة الأصلية، وهي أنه نموذجهم لا يعير أهمية لأي شعب يسكن هذه الأرض. الحدود الجغرافية لم تعد مهمّة له أبداً إلى درجة أن خروج ودخول الأفراد والأسر يخضع لمعيار قائم على عدم الاعتراف بهذه الحدود. هكذا دخلت آلاف الاسر السورية النازحة من دون أي نقاش في مجلس الوزراء. لا نقول أنه يجب منع دخولهم أو فتح الحدود أمامهم، بل المشكلة الفعلية أنه لم يكن هناك أي نقاش لأن الثقافة السائدة لا تتضمن الاعتراف بوجود من لا يحملون الهوية اللبنانية حتى لو كانوا مقيمين في لبنان!».
ماذا يعني ذلك؟ أي عدم الاعتراف بوجود غير اللبنانيين على الأراضي اللبنانية. يوضح نحاس فكرته «ان هناك مترتبات اقتصادية واجتماعية على هذا الأمر. فهذا المجتمع الذي لا يتم الاعتراف به، بات جزءاً أساسياً من النظام الاقتصادي سواء لجهة العمل، أو لجهة الإنفاق والاستهلاك. ففي مقابل هذا الواقع المحلّي، يظهر أن هناك كفّة أخرى لهذا الميزان تتعلق بالمغتربين اللبنانيين الذين صُنعوا في لبنان. بعض الشرائح المهاجرة، سافرت من لبنان في الأربعينيات والخمسينيات، لكن العقل اللبناني يرى أن هؤلاء هم لبنانيون بالمعنى الكامل رغم أنهم حصلوا على جنسية أخرى، ويعملون في دولة أخرى ويدفعون ضرائبهم في دولة أخرى ويحصلون على الخدمات العامة في دولة أخرى، ويمارسون حياتهم المدنية والسياسية والاجتماعية في دولة أخرى. بعضهم فقط يحافظ على رابطة ما مع لبنان تتجلى في إرسال مبالغ تعين عائلاتهم أو بعضا من عائلاتهم هنا». يضيف نحاس: «لكل الهجرات ذاكرة وهي فعل تراكمي بين وقت الهجرة ومدة الحياة في المهجر. الذاكرة تبقى فاعلة بشكل ظرفي، وبالتالي تبقي علاقة ما مع الوطن الأم، لكن التجارب السابقة كشفت عن وجود مخزون نقدي كبير للمهاجرين يستعمل خارج لبنان، سواء باستثمارات وأعمال وقدرات فردية وجماعية وتوظيف وإنفاق… أما التحويلات الآتية إلى لبنان فهي تفيد عددا كبيرا من العائلات اللبنانية لكنها لا تلغي أن النسبة الأكبر من مجمل التحويلات هي بيد عدد محدود. العدد الكبير مسؤول عن نسبة صغيرة من التحويلات تنفقها الأسر ولا تدخل في إطار نظام الادخار والاستثمار خلافاً للتحويلات التي تكون بيد القلّة التي تراكم المدخرات ورؤوس الأموال».

إذاً، المسألة تتعلق بالاعتراف بالدولة وبالشعب. «سواء كنا ضمن حدود الدولة بالمعنى الجغرافي أو خارج هذه الحدود، فإن مفهوم الدولة ليس معترفاً به في العقل اللبناني. الرابطة الوحيدة المعترف بها تسمى اليوم ميثاقية أو إنماءَ متوازنا… هذه الأسماء وغيرها هي أقنعة لوجه واحد هو الرابط العصبي أو الطائفي. وبالتالي فإن مقياس الاقتصاد ليس داخل حدود الوطن ومن يعمل فيه، بل هي الطائفة. المفارقة أنه في العلاقة مع الخارج يكون المقياس معولماً، وفي العلاقة مع الداخل يكون المقياس ضيقاً إلى حدود البيت أو الدار أو الزنغا»، وفق تعبير نحاس. هكذا تصبح المشكلة أن هذه الدولة «ترفض النقاش في تدفق نازحين يوازون أكثر من 25% من عدد المقيمين فيها. هذه الدولة لا تزال ترى أن المغتربين منذ عشرات السنين هم مقيمون في لبنان وتتعامل معهم على هذا الأساس رغم أن وضعيتهم الفعلية أصبحت في بلد آخر حيث باتوا ينتمون تلقائياً بسبب الحصول على الجنسية، والحصول على العمل، والتماهي مع الثقافة السائدة ومع القوانين المرعية هناك»، يقول نحاس.
طبقياً، يمكن التمييز بين فئتين من المقيمين في لبنان؛ طبقة رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال الذين يحمل معظمهم جنسيات غير لبنانية ولا نعلم إذا كانوا يدفعون الضرائب في لبنان أو في الخارج أو لديهم إعفاءات واصول في الخارج… وهناك باقي المقيمين من الجنسية اللبنانية ومن الأجانب العاملين على الأراضي اللبنانية الذين يصبحون عبئاً على الطبقة الأولى التي لا تريد لهذا النموذج أن يتضرّر حتى لا يصيبها أي ضرر. وبالتالي يصبح تحميل التعامل مع هذه الفئة من خلال الرابط العصبي أو الطائفي الذي يتحوّل إلى اقتصاد عشائر وطوائف.
أوضح مثال على هذا الأمر «هو أن الرأسماليين يسعون لتحقيق الأرباح وهذا الأمر يتطلب زيادة القدرة الشرائية. النموذج الرأسمالي يقوم على علاقة بين الاجور (العمال) والأرباح (أرباح رأس المال)، صحيح أن زيادة الاجور تقتطع من الأرباح لكنها تسهم في تعزيز استمرارية نموّ الأرباح. هذه العلاقة ليست متوافرة في النموذج اللبناني حيث تبرز فيه ظواهر من نوع «أبو رخوصة» (المقصود ليس شخص رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس الذي أطلق هذه الكلمة، بل الفئة التي ينتمي اليها وترى ان الفئة الباقية عبء عليها)». «أبو رخوصة» لا يرى في الفئة الثانية زبائن لديه، أي إن الفئة ذات الاجور المتدنية لا تدخل في حساب العلاقة بين الاجور والأرباح. اي الاقتطاع من الأرباح لحساب هذه الفئة لن يدفعهم إلى استهلاك سلع هي الأغلى… مستهلكو هذه السلع هم من الطبقة نفسها التي ينتمي إليها «أبو رخوصة» والأجانب غير المنتجين في لبنان. المثال ينطبق أيضاً على تجارة العقارات، فالمباني التي تنشأ على الواجهة البحرية لمدينة بيروت، وفي وسط المدينة نفسها، وعلى أطرافها أيضاً… غالبيتها تضم شققا فخمة أو سوبر فخمة وأسعارها باهظة إلى درجة أن مستوى الاجور في لبنان ليس قادرا على استهلاكها. لذلك تعتمد المبيعات على هؤلاء الذين يعملون خارج لبنان، أو الأجانب من خليجيين وسواهم.
«اصبح البلد سوقا حرّة». بهذه العبارة يختم نحاس تفسيره للنموذج الاقتصادي في لبنان. ليس راسمالياً، وليس ليبرالياً، بل هو شيء آخر. «المقيمون في لبنان سواء كانوا من حاملي الجنسية اللبنانية أو غيرها، سينتفضون يوماً للمطالبة بحقوق العيش، أي الاعتراف بهم. هؤلاء يعملون في الزراعة والصناعة والخدمات، ويوماً ما ستكون لديهم مطالب. وبالتالي إن الاعتراف بهم ضرورة اقتصادية».
أما المقيمون الباقون، فهم الذين يعترف النظام بوجودهم فقط، أي إنه لا يعترف بأي من حقوقهم. كل المقيمين يسهمون في الناتج المحلي الإجمالي، وفي الحياة العامة، لكنهم عبء على الطبقة ذات الجنسيات المتعددة. لهذه الطبقة القدرة على تغيير الشعب ومفهوم الشعب. هي تريد استقدام أي شعب يمكنه أن يخدم رفاهيتها.

النزوح بعيون أوروبية وخليجية

لماذا لم تستقبل دول الخليج أي نازح سوري؟ الاجابات في لبنان سياسية الطابع، لكن الواقع الفعلي يمثّل نموذجاً يجب قراءته بتمعّن. في رأي الوزير السابق شربل نحاس، فإن دول الخليج توافق على دخول النازحين الأفراد الذين يأتون للعمل، ولا توافق على إدخال العائلات الآتية لتستقرّ. هذا النموذج ليس عشوائياً، بل مهندساً بدقّة. في دول الخليج، يمنع تكوين العائلات لفئات العمال، بصورة عامة، ويُسمح لطبقة أعلى بإحضار عائلاتها. الاستفادة من العمال لخدمة النظام، ومن العائلات ذات القدرة الشرائية الأعلى لخدمة الاستهلاك. أما في لبنان، فالنموذج لم ينطبق بكامله بسبب تدفق الفلسطينيين والسوريين. أتوا مع عائلاتهم ومع تمويلهم الشخصي والأممي فلم يعترف بهم النظام رغم أنهم أصبحوا جزءاً حقيقياً منه. المشكلة أن لا أحد يريد الاقرار بوجود المشكلة ولا أحد يريد استخدام مفردات المعالجة. أي معالجة يجب أن يسبقها اعتراف بالمشكلة. في أوروبا قامت القيامة بعد الهجرة السورية الأخيرة لأنهم يرونها مشكلة ويعترفون بها. نحن في لبنان لا نريد النقاش في المشكلة ولا الاعتراف بها، بل نبحث في الحفاظ على الأمن، ونحاول الحفاظ على تموضعنا الاجتماعي. الباقي ليس مهماً، وإذا أصبح عبئاً فنحن متنكرون له.