كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
قانون الانتخاب هو الأصل. كل ما جرى قبله ويجري بعده أو على هامشه، لا قيمة له. ولأنه الأصل، فإن أحداً لا يبدو مستعداً للخوض فيه جدياً، في زمن الانتظارات الطويل.
يعرف المصرون على إدراجه على رأس جدول أعمال أي جلسة تشريعية، أن إقراره ليس بالأمر اليسير. هو القانون الذي تجمع كل القوى على أنه أهم من انتخابات رئاسة الجمهورية، فهو الذي يرسم ملامح أي توازنات سياسية جديدة، بما تفرزه من أغلبيات تحدد مستقبل الاستحقاقات، وأبرزها رئاسة الجهورية.
ولأن الاستعداد لإقرار القانون معدوم، ولأن عزله عن الحسابات المحلية ـ الإقليمية لا يعدو عن كونه مجرد أوهام، يدخل البلد في نقاش بلا جدوى حول توصية أقرها المجلس النيابي تقضي بعدم جواز إقرار قانون الانتخاب في غياب الرئيس. ذلك ليس سوى ترفاً سياسياً يهدف إلى تورية حقيقة أن إقرار قانون الانتخاب مؤجل إلى أمد طويل.
في جلسة التمديد الثاني (نهاية العام 2014)، التي ربطت بالتعهد بمناقشة قانون الانتخاب تمهيداً لإقراره، كان النائب وليد جنبلاط قد طالب بهذه التوصية، فكان له ما أراد. لكن أثناء الجلسة التشريعية الأخيرة، وقف النائب ابراهيم كنعان في بدايتها، طالباً سحب التوصية التي أعلن بري عن وجودها، فلاقاه رئيس المجلس، داعياً الهيئة العامة إلى سحبها، ومعلناً تشكيل لجنة مصغرة تناقش قانون الانتخاب خلال شهرين بشكل مكثف. أضاف كنعان: إذا لم تصل اللجنة إلى نتيجة، فعلى رئيس المجلس تحويله إلى اللجان المشتركة من حيث انتهى النقاش في اللجنة والتصويت عليه. لكن المفاجأة أتت من عند الرئيس فؤاد السنيورة الذي أكد أنه لا يمكن الإعلان أن الانتخابات الرئاسية ليست أولوية، وبالتالي لا داعي لسحب التوصية، وعندما يكون القانون جاهزاً يطرح تلقائياً. بلع “التيار” الموسى آنذاك، بعد أن سوقت أوساطه أنه “تبين أنه لا يوجد توصية”، بالرغم من أن بري سبق وعرضها على كثر ممن التقوه.
التوصية موجودة بالفعل، لكن الحديث عن ضرورة إلغائها لإقرار قانون الانتخاب في ظل الفراغ الرئاسي، هو الإشكالية الفعلية. فالمناقشات السابقة تظهر أن الهيئة العامة تخطت المسألة في الجلسة التشريعية الأخيرة. أما تحويل الموضوع إلى اللجان المشتركة، فكان مطلباً عونياً في حينه، لكنه لم يتابع بعد تقديم اللجنة لتقريرها. وها هو يتحول اليوم إلى قنبلة يرميها بري في يد القوى المسيحية.
خوفاً من تمرير قانون الغفلة
الرئيس بري لا يزال على موقفه. يرفض رفضاً قاطعاً طرح قانون الانتخاب على الهيئة العامة قبل التوافق بشأنه. يخشى، كما “حزب الله”، من أي خطأ قد يؤدي إلى تكتل أكثرية نيابية خلف أحد القوانين والتصويت عليه. ذلك سيزيد الشرخ في البلد إلى درجة قد تهدد بتداعيات خطيرة. لذلك، فإن دعوة البعض إلى طرح الاقتراحات على التصويت، على أن يقر القانون الذي يستحوذ على الأكثرية، لا يسمع صداها في عين التينة، لا بل إن البعض يعتبرها مجرد مراهقة سياسية، في بلد محكوم بتوازنات طائفية ومناطقية وسياسية وأمنية دقيقة.
ولأن “القوات” و”التيار الوطني الحر” و”الكتائب” حسموا أمرهم برفض المشاركة في أي جلسة لا تتضمن قانون الانتخاب، لم يكن بإمكان بري الدعوة إلى الجلسة، خاصة أنه، بدوره، حسم قراره بعدم طرح أي قانون انتخاب غير متوافق عليه، في الهيئة العامة. أما “المستقبل” فكان رأيه مزدوجاً. الرئيس فؤاد السنيورة أكد في طاولة الحوار الأخيرة أنه يؤيد التشريع بغض النظر عن قانون الانتخاب، وسمير جعجع يعلن في الوقت نفسه أن الرئيس سعد الحريري “معنا ولن يشارك في جلسة ليس قانون الانتخاب على جدول أعمالها”.
وجد بري ضالته برمي 17 اقتراح ومشروع قانون انتخابي في وجه المعترضين، الذين سيكون عليهم أن يختبروا تجربة غير جدية لمناقشة 17 قانوناً في اللجان المشتركة، تجعل من الجلسات أشبه بالموالد، حيث يناقش ما يزايد عن 60 نائباً القوانين المطروحة، مع التسليم سلفاً باستحالة الوصول إلى قاسم مشترك.
من حيث المبدأ، فإن النقاش يفترض أن يبدأ بالتسلسل التاريخي لتقديم المشاريع والاقتراحات. أما إذا كانت النية سليمة، فإنه سيكون على اللجان أن تدخل في القوانين الجدية، ولاسيما القانونين اللذين درستهما لجنة الانتخابات مؤخراً، واللذين يعتمدان على النظام المختلط. وهو أمر سيثار من أكثر من كتلة، ومنها كتلة “المستقبل”، مع بداية الجلسة التي تعقد يوم الثلاثاء.
الكثير من القوانين لم يعد لها جدوى، وبعضها قدّم عندما كانت التحالفات مختلفة. والحديث هنا ليس عن القوانين القديمة فحسب، فالقانون المقدم من “الاشتراكي” و”المستقبل” و”القوات”، لم يعد مرغوباً من مقدميه. وإذا كانت حسابات “القوات” قد تغيرت بعد الاتفاق مع “التيار الوطني الحر”، فإن النائب وليد جنبلاط كرر في الاجتماع الأخير لطاولة الحوار موقفه من أن “هذه الصيغة غير مكتملة وقابلة للتغيير”، وهو ما فهم منه أن الصيغة عليها إشكالات عديدة، بما يجعل الاقتراح محصوراً بتيار “المستقبل” وحده.. إن كان لا يزال متمسكاً به.
باختصار، “لا إمكانية للوصول إلى تفاهمات منفصلة عن التفاهمات المنتظرة في ملفات كبرى أخرى”. وهو تأكيد يضاف إلى عشرات التأكيدات بأن “السلة” لن تتسع لرئيس الجهورية فقط، بل سيكون قانون الانتخاب ورئاسة الحكومة وطريقة إدارة البلد.. الزاد الذي يملؤها.
وإذا كان التشريع قد أجّل، عملياً، إلى ما بعد تشرين الأول المقبل، فلا بأس بالمزيد من تضييع الوقت بمناقشة قانون الانتخاب. على الأقل ثمة عشرة نواب صاروا متخصصين بتضييع الوقت في مناقشة قوانين عديدة، وصاروا، على الهامش، متخصصين في الأنظمة والتقسيمات الانتخابية، لكثرة ما تمحصوا فيها وناقشوها.. مع يقينهم المطلق أن ما يقومون به ليس أكثر من تمارين فكرية.
تقرير فارغ
تقرير اللجنة الأخيرة، التي اصطلح على تسميتها “لجنة عدوان” (منسقها النائب جورج عدوان)، وحصلت “السفير” على نسخة منه، يؤكد أن اللجنة لم تنجز شيئاً خلال 12 جلسة. لا بل أكثر من ذلك، يجزم البعض أن تشكيلها وعدمه كان سيان. حتى أن بعض أعضائها يعتبر أنه ما من داع لعرض التقرير لأنه “لا يتضمن شيئاً”. لكن عضواً آخر يقول: الهيئة العامة قررت تشكيل اللجنة، واللجنة أصدرت تقريراً. وهذا يعني أن الهيئة عليها أن تبت به، إن كان إهمالاً أو تحويلاً إلى اللجان أو أي شيء آخر، لكن أن يعتبر التقرير كأنه لم يكن، بغض النظر عن مضمونه، فذلك يطرح أكثر من علامة استفهام. ويؤكد، بفظاظة، أن وظيفة اللجنة كانت محصورة بتمرير الجلسة التشريعية الأخيرة كما كانت وظيفتها قبلاً تمرير جلسة التمديد..
لم يجد أي من النواب من داع لتقديم أي تنازل يسجل على فريقه، وهو يدرك أن الزمن ليس زمن إنجاز. الكل تمسك برؤيته للقانون، من دون أن يمانع النقاش، لمجرد النقاش، في القانونين المختلطين. “الكتائب” أكد على الدائرة الفردية مع النظام الأكثري، “التيار” دعا إلى انتخابات على أساس نسبي مع 15 دائرة، حزب الله” يفضل النسبية مع لبنان دائرة واحدة أو على أساس الدائرة الكبرى، و “الاشتراكي” يفضل “تغليب أولوية انتخاب رئيس الجمهورية على البت بأي مشروع”.
ومن هذه الخلفيات المتباعدة، انطلق النقاش في اقتراحين مرفوضين سلفاً، لكن الأهم أن الاستنتاجات التي وصل إليها التقرير كانت غير دقيقة. فليس صحيحاً أن “النقاش بالنقاط الخلافية أظهر أن المقاربة الوحيدة الممكنة للتوافق على هذه النقاط هو اعتماد مبدأ المقارنة والتوازن بين هذه النقاط بحيث يجري تأمين إراحة المكونات المعنية في النقاط الخلافية”. وليس صحيحاً أنه تبين، بعد استعراض دراسة رقمية أولية للنتائج، أنه “يمكن تجاوز الفوارق”.
بالشكل قد يكون الخلاف محصوراً بطريقة تقسيم دائرة جبل لبنان الجنوبي (يفصل اقتراح “14 آذار” بعبدا عن الشوف وعاليه خلافاً لمشروع بري)، إلا أن الواقع يؤكد أن الخلاف يتعلق بجوهر المعايير المعتمدة. وإذا كان اعتمد مشروع الرئيس بري على معايير شبه موحدة في كل الدوائر، بإقرار من مختلف القوى، فإن مشروع “القوات” و “الاشتراكي” و “المستقبل”، يواجه معضلة جوهرية تتعلق بازدواجية المعايير. هذا أمر يقر به معدّو الاقتراح أيضاَ، لكنهم يعتبرونه أمراً لا بد منه في ظل “سطوة السلاح”، وهو الوجه الآخر للقول إن الاقتراح يراد منه إعطاء الأغلبية لـ “14 آذار”، ففي المناطق التي تعتبرها “14 آذار” لها، كصيدا والبترون، يلغى التصويت النسبي، فيما في المناطق حيث الأغلبية لـ”8 آذار” يتم التركيز على النسبية، كمرجعيون (4 مقاعد على أساس النظام النسبي وواحد على أساس الأكثري).
باختصار، يبرر نص التقرير الذي أعدته اللجنة قرارها بعدم تسريب مضمون الجلسات، فهو يكاد يكون فارغاً من أي مضمون، إن لم يكن مجافياً للواقع. وليس أدل على ذلك من الخلاصة التي وصل إليها، حيث “تبين بعد النقاشات أن:
ـ اعتماد القانون المختلط بين النظام النسبي والنظام الأكثري يشكل أوسع مساحة مشتركة بين مختلف الأفرقاء.
ـ اعتماد الدوائر وفقاً لاتفاق الدوحة في النظام الأكثري وجمع بعض هذه الدوائر لاعتمادها في النظام النسبي يشكل أوسع مساحة مشتركة بين مختلف الأفرقاء”.