كتبت دنيز عطاالله حداد في صحيفة “السفير”:
يتواصل انهماك اللبنانيين بالانتخابات البلدية بما يوحي وكأن بعض معاركها ترسم سياسات لبنان والمنطقة، وربما ترخي بتداعياتها على العالم.
تخاض المنافسة بأوهام كبيرة حينا او واقعية مبتذلة في احيان كثيرة. فبين من ينزع اي صفة سياسية عن هذه الانتخابات، وبين من يجعلها محور الحياة السياسية وبوصلتها، يتم تصوير هذا الاستحقاق وكأنه حدث مفصلي في اليوميات اللبنانية.
حين وصف ميشال شيحا لبنان بأنه “بلد الحلم والواقع معا” لم يكن قطعا يتقصد أن يكون الحلم مرادفا للاوهام الصغيرة. كان يؤسس ويساهم في تكوين صورة وفكرة عن البلد ـ الحلم ـ المشتهى فيها حدّ مقبول من الواقعية الممكنة، وإن أسرف في وضع لمساته الخاصة على “الأسطورة المؤسسة”.
لكن الأحلام التي يعيشها اللبنانيون على وعود الانتخابات البلدية وبرامجها وشعاراتها، هي في واقع يومياتهم كوابيس يطلون منها على ضحالة تتعمّم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
لا يمكن التقليل من اهمية الانتخابات البلدية كوجه من وجوه الحراك السياسي والمدني الديموقراطي. لا خلاف حول دورها الانمائي. ويجوز الاجتهاد وصولا الى اعتبارها اللبنة الاولى في المواطنة. فالمفترض ان يتجه في هذه الانتخابات افراد احرار، الا مما يرونه في مصلحة مدينتهم وبلدتهم ورفاهيتهم ، لينتخبوا من يدير شؤونها ويهتم بما يسهم في تطورها، فينعكس ذلك عليهم ايجابا على اكثر من مستوى. فهل ما يحصل اليوم خطوة في هذا الاتجاه؟
تغرق البلدات والقرى في صراعات لا يمكن توصيفها بدقة. تحت عناوين المحلية والعائلية، تنقسم العائلة الواحدة وتبحث عن نسبها الابعد، عند الجدّ والجبّ.
وتحت عنوان توافق اهل البلدة او المدينة، تنقسم القرى الى عائلات “صغيرة” و”كبيرة”. وتفتح كتب العرف والعدد.. وتصل الرغبة بعدم انقسام البلدة، والأدق تأمين حصول الجميع على حصة في البلدية العتيدة، الى التحالف مع اعتى الخصوم، كما يحصل في ساحل المتن مثلا حيث يتحالف “القومي” مع “القوات”.
وتحت عنوان الحفاظ على الصف السياسي والخطّ الواحد، تتّحد اللوائح في صدّ رغبات الاهالي بمجالس بلدية حدودها محلية وطموحاتها محلية. يصعب ايجاد قوى تواجه تحالف “أمل” و “حزب الله”. وإن حصل، كما في بعض البلدات البقاعية او الجنوبية مثلا، فإن لوائحها تبقى غير مكتملة.
بدوره يحاول التحالف بين “القوات الللبنانية” و”التيار الوطني الحر” أن يضخّم الهالة من حوله. فمن يقف في وجه هذا التحالف يبدو كمن يريد للخلافات ان تبقى مصدرا دائما للتوتر في الاوساط المسيحية. او كمن ينحاز الى “التقليد” في السياسة ضد التجديد والتجدد عبر الاحزاب. يحدث ذلك في وقت تغالي الاحزاب في تقليديتها، سواء في اختياراتها لمرشّحيها أو في برامجها المطروحة. اما الانقسامات والتمرد داخل الحزب الواحد طمعا بأرجحية ما او مقعد مشتهى، فيمكن اعطاء عشرات الامثلة عنها.
اما عنوان المناصفة والتوازن وتمثيل كل الاطراف والقوى والاحزاب وحتى الشخصيات الدينية، فقد استخدم شمّاعة لتركيب تحالفات من اضداد ومن وجوه ثبت فشلها او عجزها او، في احسن ألاحوال، هزالة كفاءتها.
ليست الانتخابات البلدية استحقاقا تاريخيا في بلد يعيش حروبا مؤجلة على خلفيات شؤونه السياسية وشجونه الاقتصادية. لكن كان بامكان هذه الانتخابات أن تكون محطة، تمهّد لانعطافة، تحد من سرعة انزلاقه الى “فوضاه” غير المبتكرة ولا الخلّاقة.
كان بالامكان افضل مما كان وسيكون، هذا مؤكد. لكن السؤال يبقى دائما حول المسؤوليات. فهل تتحمل السلطة وحدها، بمشاركة كل الطبقة السياسية، المسؤولية عن طريقة تركيب اللوائح ونتائج الانتخابات؟ اليس من دور وصوت للناس، المواطنين، الافراد؟ الا يتوجه هؤلاء بملء حريتهم للاقتراع؟ على الارجح سيفعلون ذلك وأرتال النفايات وروائحها تعمي العيون ويتسلل شذاها الى الانوف، فهل يؤثر ذلك على خياراتهم؟
الم يقل شيحا يوما ان “لبنان بلد الحلم والواقع معا”؟ ربما ينتصر الحلم على الواقع يوما، وإن كان الحليم الخبير بالبلد لا يراهن كثيرا على ذلك.