أندرو وارد
ما قيمة حياة الإنسان؟ إنه واحد من الأسئلة الأكثر إثارة للقلق في السياسة العامة، إذ تعاني الحكومات في جميع أنحاء العالم ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية للسكان الكبار في السن.
الجواب مهم ليس فقط للمرضى ودافعي الضرائب وشركات التأمين، لكن أيضاً لشركات الأدوية التي تسعى للمكافآت مقابل التقدّم الطبي الذي ساعد على مضاعفة متوسط العمر المتوقع العالمي في القرن الماضي.
لا يوجد مكان تشتد فيه حدة النقاش أكثر من المملكة المتحدة، حيث ضغط الميزانية على خدمة الصحة الوطنية يقيد نمو فواتير الأدوية السنوية البالغة 12 مليار دولار ويثير توترات مع مصالح غالباً ما تكون منافسة لقطاع الأدوية.
جورج فريمان، وزير علوم الحياة في المملكة المتحدة، قال في مؤتمر في لندن الأسبوع الماضي: “لا يُمكن أن نستمر كما كنّا في الماضي”، مؤكداً ضرورة إبرام “صفقة جديدة” بين الحكومة وشركات صناعة الأدوية.
سيتم وضع رؤية فريمان في تقرير رسمي في وقت لاحق من هذا العام، من المتوقع أن يقترح فيه آليات لإيصال العلاجات الجديدة الأكثر نجاحاً إلى المرضى بشكل أسرع وبتكلفة معقولة. في الوقت نفسه من المُقرر أن تدخل حيّز التنفيذ في تموز (يوليو)، تغييرات واسعة في الطريقة التي يتم بها تقييم أدوية السرطان في خدمة الصحة الوطنية.
معاً، هذه التطورات تعد بأن تجعل المملكة المتحدة بوتقة اختبار لما إذا كانت المجتمعات الغربية التي أصابها التقشف يُمكن أن تواكب الوتيرة المتسارعة للابتكار الطبي. الارتفاع في الموافقات على الأدوية خلال العامين الماضيين أنعش الثقة في إنتاجية صناعة الأدوية بعد موجة خمول طويلة، وهناك موجة أخرى من المنتجات في طريقها إلى السوق، وكثير منها يشتمل على تقنيات تحوّلية تستهدف الجينات المعيبة أو تعديل الخلايا. لكن تكلفة هذا التقدّم تُهدّد بزيادة الضغط على خدمة الصحة الوطنية في الوقت الذي تسعى فيه لتحقيق وفورات بمقدار 22 مليار جنيه بحلول عام 2020.
إنها مُعضلة يتردد صداها في أنظمة الصحة العامة في أنحاء أوروبا كافة، لكن أيضاً على نحو متزايد عبر المحيط الأطلسي حيث الولايات المتحدة تسعى للسيطرة على مبلغ ثلاثة تريليونات دولار تُنفقها كل عام على الرعاية الصحية.
ريادة بريطانية
أهمية المملكة المتحدة باعتبارها مكانا للاختبار تتجاوز حصتها البالغة 3 في المائة من مبيعات الأدوية العالمية. باعتبارها موطن جلاكسوسميث كلاين وأسترازينيكا، وهما من أكبر شركات صناعة الأدوية في أوروبا، ويوجد فيها نصف أبرز عشر جامعات للأبحاث الطبية في العالم، بحسب مجلة “تايمز هاير إيديوكيشن”، فإن بريطانيا تُحقق أداءً يتجاوز قدراتها في علوم الحياة. كثير من الأدوية الأكثر مبيعاً في العالم تنتمي إلى فئة تُسمى الأجسام المُضادّة وحيدة الخلية التي طوّرها علماء المملكة المتحدة في السبعينيات والثمانينيات.
لكنّ المرضى البريطانيين لم يستفيدوا دائماً من الابتكارات المحلية، إذ تعد بريطانيا من بين أبطأ البلاد التي تعتمد الأدوية الجديدة في أوروبا الغربية. هذا يعكس العقبات الصعبة التي أوجدها “المعهد الوطني للصحة وتفوّق الرعاية” Nice، الذي يُعتبر بمثابة حارس في وجه الشركات التي تسعى للوصول إلى خدمة الصحة الوطنية من أجل أدويتها. الوكالة، المعروفة باسم نايس، تُقارن ثمن العلاج بالمزايا التي يحصل عليها المرضى ويُقاس ذلك من خلال معادلة تُسمّى “أعوام الحياة المُضافة المُعدّلة حسب الجودة” أو “كوالي”. وعادة لا توصي بدواء تزيد تكلفته عن 30 ألف جنيه لكل “كوالي”.
هذا النهج الهادئ نحو قرارات الحياة والموت منح وكالة نايس نفوذاً عالمياً باعتبارها أنموذجاً لصناعة السياسة القائمة على الأدلة. لكن النظام البريطاني لديه الكثير من النقّاد، خاصة بين شركات الأدوية ومجموعات المرضى الذين يعتبرون منهجيتها جامدة جداً وأن الحد الأقصى لإنفاقها البالغ 30 ألف جنيه منخفض جداً. يقول ريتشارد إيروين، المدير العام في المملكة المتحدة لمجموعة الأدوية السويسرية، روش: “عدد صغير جداً فقط من البلدان تعمل مع مثل هذا السقف الثابت”.
هناك نزاعات أكثر شراسة شملت أدوية السرطان. هذه يغلب عليها أن تكون مُكلفة جداً – خاصة تلك التي لأشكال مُتقدّمة أو نادرة من المرض – لأن الشركات بحاجة إلى تحقيق عائد على الاستثمار من أعداد صغيرة نسبياً من المرضى خلال فترات قصيرة من العلاج. إدراكا منها لهذه القضايا، تضع وكالة نايس سقفا أعلى بقيمة 50 ألف جنيه لكل “كوالي” من أجل علاجات “نهاية الحياة”. حتى هذا غالباً ما يكون غير مرتفع بما فيه الكفاية لأدوية السرطان الحديثة. ومنذ عام 2011 رفضت الوكالة أكثر من نصف العلاجات التي قيّمتها.
بالنسبة للمعجبين بنظام المملكة المتحدة، ينبغي الإشادة بوكالة نايس لشكوكها بشأن الأدوية التي غالباً ما توفّر بضعة أشهر إضافية قليلة فقط من الحياة، في أحسن الأحوال، مقابل مبالغ كبيرة من المال يُمكن استخدامها في إنتاجية أكثر في أماكن أخرى في خدمة الصحة الوطنية. يقول كارل كلاكستون، وهو خبير اقتصاد في مجال الصحة في جامعة يورك: “الثمن الذي نستطيع دفعه هو النقطة التي عندها مزايا الدواء تُماثل المزايا التي سنتخلى عنها نتيجة لتلك التكاليف الصافية”.
هذه الحجة قد تبدو غير قابلة للنزاع بالنسبة للأكاديميين، لكن ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، عرف أن مرضى السرطان وعائلاتهم لن يتقبلوا ذلك. بعد أن شعر بالذعر من البيانات التي تُظهر أن المملكة المتحدة متخلفة عن غيرها من بلدان أوروبا الغربية في معدل النجاة من مرض السرطان، أسس نظاما خاصا في عام 2010 لتوفير تمويل إضافي لأدوية السرطان التي اعتبرتها وكالة نايس مُكلفة جداً.
منذ ذلك الحين، 80 ألف شخص تلقّوا العلاجات من خلال صندوق أدوية السرطان. ومع عدم وجود تدقيق وكالة نايس، لم يكُن هناك أي ضغط على الشركات لجعل الأسعار معتدلة، أو الأطباء معتدلين في استخدامها. هذا أدى إلى ارتفاع تكلفة التمويل من 38 مليون جنيه في 2010/ 2011 إلى 416 مليون جنيه في 2015/2014 – أعلى من ميزانية ذلك العام بنسبة 50 في المائة. يقول البروفيسور كلاكستون: “صندوق أدوية السرطان يُظهر تماماً أنه ليس هناك مبلغ مُتاح كبير بما فيه الكفاية لحل هذه المشكلة”.
في محاولة لاستعادة الانضباط المالي، أكّدت خدمة الصحة الوطنية في إنجلترا في شباط (فبراير) على خطط لاستعادة وكالة نايس حق الفيتو. واعتباراً من تموز (يوليو) ستتولى تقييم جميع أدوية السرطان الجديدة في غضون 90 يوما من موافقة هيئة التنظيم – أسرع مما كانت في الماضي – وإصدار قرار بشأن الأدوية يتضمن “نعم، لا، أو ربما”. القرارات التي تتضمن “ربما” – الأدوية التي تُظهر احتمال النجاح لكن تتطلّب المزيد من الأدّلة – سيتم تمويلها لمدة عامين أقصى حد من قِبل صندوق أدوية السرطان المُعاد تنظيمه. ولن يتم التوصية باستخدامها إلا إذا أثبتت جدواها خلال فترة الاختبار المذكورة.
تقول خدمة الصحة الوطنية في إنجلترا إن هذه التغييرات ستضع رعاية السرطان مرة أخرى على أساس مُستدام وتضمن أن الأموال يتم توجيهها نحو العلاجات الأكثر فعالية. مع ذلك، كانت هناك احتجاجات من شركات الأدوية وحلفائها الذين يخشون أنه بدون تغيير منهجية وكالة نايس، سيتم حظر معظم منتجاتها. قالت إحدى الجمعيات الخيرية إن رعاية السرطان في خدمة الصحة الوطنية خاطرت بأن تتعرّض “لنكسة لمدة جيل”. إيريك نوردكامب، المدير الإداري في المملكة المتحدة لشركة فايزر، قال إنه حتى اليونان التي تتعرّض لأزمة تملك إمكانية وصول أكبر لأحدث العلاجات.
السير أندرو ديلون، الرئيس التنفيذي لوكالة نايس، يقول إن هناك علاجا بسيطا هو أن على الشركات تخفيض أسعارها. “ما لم يكُن هناك تغيير في السعر، أو في حجم المزايا التي تجلبها هذه الأدوية للمرضى، عندها فإن منهجية وكالة نايس ستؤدي إلى النتائج نفسها بصورة عامة كما كانت من قبل. في نهاية المطاف، الأمر يعود للشركات لاتخاذ القرار”.
وتتساءل شركات صناعة الأدوية لماذا ينبغي أن يكون من المتوقع أن تُقدّم مزيدا من التخفيضات للمملكة المتحدة، في حين أنها تتمتع أصلا بأقل الأسعار بين بلدان العالم المتقدّم. دفعت الصناعة أكثر من مليار جنيه خصومات لوزارة الصحة منذ صفقة في عام 2013 وضعت حدا للنمو السنوي في فاتوة الأدوية لخدمة الصحة الوطنية بمعدل أقل من معدل التضخم لمدة خمسة أعوام – مع تولي الشركات بشكل جماعي تسديد أي إنفاق يتجاوز الحد المُتّفق عليه.
الخوف هو أن أي ضغط إضافي في المملكة المتحدة ستكون له آثار جانبية على التسعير في أنحاء أوروبا كافة. هذا، بدوره، يمكن أن يُخاطر بزيادة التدقيق السياسي في الولايات المتحدة على الفجوة عبر المحيط الأطلسي في تكاليف الأدوية التي تجعل الأمريكيين يدفعون ضعف ثمن الأدوية – ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى غياب ضوابط على الإنفاق على غرار المملكة المتحدة.
هناك احتمال فوري محدود لتأسيس الولايات المتحدة هيئة تقنيين فيدرالية. مع ذلك، هناك دلائل على أن بعض الناس يتعلّمون الدروس من وكالة نايس. مركز سلون كيتيرينج التذكاري للسرطان في نيويورك، واحد من مستشفيات السرطان الرائدة في الولايات المتحدة، أطلق العام الماضي أداة على الإنترنت تُسمّى “دراج أباكوس” لمساعدة مُقدّمي الرعاية الصحية على تقدير قيمة أدوية السرطان.
وتستجيب شركات الأدوية عن طريق التجريب بنماذج الأجر مقابل الأداء المرتبطة بمدى نجاح الدواء بدلاً من حجم مبيعاته. لكن ألكسندر موستشو، رئيس شركة صناعة باير الألمانية في المملكة المتحدة، يقول إن نظام كوالي ليس مرناً بما فيه الكافية للعالم الجديد من الأدوية المُخصّصة. “هو يحتاج إلى نهج جديد لا يكون من باب مقاس واحد لجميع الأحجام”.
السير أندرو، المسؤول عن وكالة نايس منذ إطلاقها في عام 1999، ينفي أن النظام مصاب بالاختلال. “لن أقول إن منهجية وكالة نايس مثالية، لكنني لا أعتقد أن هناك أي شيء في الأساس خاطئ بشأنها أيضاً. من حيث كونها قادرة على إجراء تقييم دقيق لما يُقدّمه المُنتَج، أعتقد أننا ننجز ذلك بشكل جيد تماماً”.
كانت شركات صناعة الأدوية على خلاف مع وكالة نايس منذ حُكمها الأول قبل 17 عاماً الذي أدى إلى تهديد مُبطن من قِبل مجموعة جلاكسو للخروج من المملكة المتحدة، قائلة إن القرار “شكّك في ملاءمة المملكة المتحدة باعتبارها قاعدة لعمليات شركات الأدوية متعددة الجنسيات”. أسترازينيكا التي تبني قاعدة أبحاث وتطوير بقيمة 330 مليون جنيه في كامبريدج، أصدرت توبيخاً مماثلاً عندما قاومت وكالة نايس عقار أولاباريب، دواء سرطان المبيض الذي تنتجه. وتساءل باسكال سوريو، الرئيس التنفيذي للشركة: “كيف يُمكن أن تقول حكومة إنها تريد لهذه البلاد أن تكون مركزاً للابتكار (…) لكن عندما نكتشف ابتكارا جديدا فلا يجد سوقا؟”.
بالنسبة للمدافعين عن وكالة نايس، هذه المواجهات دليل على أن الأنموذج نجح في إيجاد حَكَم محايد. مع ذلك، يشعر قادة شركات الأدوية أنه ينبغي أن يكون هناك دعم أكثر لصناعة تُمثّل ربع إنفاق القطاع الخاص على الأبحاث والتطوير في المملكة المتحدة.
يقول مايك تومبسون، الرئيس التنفيذي لاتحاد صناعة الأدوية البريطانية: “إذا لم يتم استخدام الأدوية الجديدة في المملكة المتحدة، فإن الشركات العالمية لن تستثمر هنا”.
وصول مفتوح
هذه المواجهة هي التي دفعت فريمان لإطلاق مراجعة وصول متسارع في العام الماضي، بقيادة السير هيو تايلور، وهو موظف مدني كبير سابق في وزارة الصحة. تم تأجيل تقريره، مثل أي شيء آخر في وايتهول، إلى ما بعد الاستفتاء على عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي في حزيران (يونيو).
ومن المتوقع أن يقترح أن الأدوية الجديدة التي تُظهر احتمالات النجاح الأكبر ينبغي أن تُمنح إمكانية وصول مشروطة مُبكرة لمرضى خدمة الصحة الوطنية. سيتم توسيع الاستخدام تدريجياً أثناء تجميع بيانات “العالم الحقيقي” فيما يتعلّق بالسلامة والفعالية. من الناحية النظرية، هذا ينبغي أن يؤدي إلى تخفيض تكاليف تطوير الأدوية عن طريق تخفيض وقت التسويق ويؤدي إلى مناقشات تسعير أكثر توافقية قائمة على صورة أوضح للقيمة المُقدّمة.
يقول ستيورات دولو، مستشار المراجعة التي يجريها السير هيو: “الجميع سيستفيد: الشركات ستحصل على عائد أسرع على استثمار أقل والمرضى سيحصلون على إمكانية وصول إلى الأدوية بشكل أسرع. الأمر يتعلّق بالابتعاد عن أنموذج الخصومة الحالي، حيث تدْخُل الصناعة بسعر عال وهي تعلم أنه سيتم مفاوضتها لتخفيضه”.
وتقول شركات الأدوية إنها يُمكن أن تكون جزءا من الحل لأزمة الميزانية في خدمة الصحة الوطنية من خلال توفير العلاجات التي تُقلّل من التكاليف على المدى الطويل. نوفارتيس، شركة الأدوية السويسرية، أعلنت الأسبوع الماضي عن طلب قوي في أوروبا على دواء جديد أظهر إمكانية تخفيض معدلات دخول المستشفيات بسبب قصور القلب بمقدار الخُمس.
يقول تومبسون: “يجب أن نتوقف عن النظر إلى الأدوية على أنها تكلفة وننظر إلى القيمة التي يُمكن أن توجدها للشركات في المملكة المتحدة”. مع ذلك، يعترف أن الصناعة يجب أن تكون واقعية بشأن التسعير “هناك رسالة واضحة من الحكومة: لا يوجد المزيد من المال”.