كتبت رولا حداد:
أثبت اللبنانيون مرة جديدة أنهم شعب مخدّر، أو أنهم شعب قابل للتخدير باستمرار. تكفي متابعة صورة المشهد السياسي والشعبي العام للتيقّن من أن الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان أنست اللبنانيين كل همومهم ومصائبهم الأخرى.
نسي اللبنانيون الانتخابات الرئاسية، وكيف أن قصر بعبدا فارغ من سنتين. لا يهمّ لأن منصب “رئيس بلدية” في كل قرية وبلدة ومدينة في لبنان بات اليوم أهمّ من منصب رئاسة الجمهورية الذي تمّ إفراغه من أهميته وتهميشه بشكل لم يسبق له مثيل. وباتت المعاركة البلدية والاختيارية تطغى على واقع تعطيل “حزب الله” الانتخابات الرئاسية. فلا أحد يسأل اليوم عن عدد جلسات الانتخابات الرئاسية المعطلة النصاب، لأن الأهم بات تحقيق انتصار عائلي ما في بلدية ما في لبنان!
ونسي اللبنانيون أن الوضع الاقتصادي تخطى عتبة الانهيار نزولاً. لا همّ لأن الانتخابات البلدية والاختيارية ساهمت وتساهم في تحريك عجلة الاقتصاد قليلا، من زاوية تحقيق بعض الإنفاق الانتخابي المناقض لكل المبادئ والآليات الديمقراطية. ففي البلدات والمدن التي ستشهد المعارك الانتخابية الحامية مثل العاصمة بيروت وزحلة وجونية وصيدا وطرابلس وغيرها، يشهد اللبنانيون عمليات إنفاق انتخابي على أكثر من مستوى، بدءًا بالمستويات الإعلانية كافة وصولاً الى انطلاق عمليات عروض “شراء الأصوات” لأن المعارك ستكون “على المنخار”!
ونسي اللبنانيون أن أزمة النفايات لم تُحلّ، وأن مهلة الشهرين لفتح مطمر الناعمة تشارف على نهايتها، ولم يتم تحضير المطامر البديلة. ونسي المتنافسون على الألقاب البلدية أن ثمة عملاً كثيراً ينتظرهم، وتحديداً في موضوع معالجة كارثة النفايات. ونسوا أن التنافس هذه المرة لا يمكن ان يقتصر على الوجاهة ولقب “ريّس”، بل إن المطلوب كثير لتأمين الحلول في موضوع النفايات. ويقيناً لو أن أكثرية المرشحين الى الانتخابات البلدية يدركون حجم المسؤوليات التي سيحملونها هذه المرة لكانوا أحجموا عن الترشح!
ونسي اللبنانيون أن الأكثرية الساحقة من السياسيين والأحزاب السياسية لم تكن على قدر المسؤولية في المراحل الماضية، كما أن المنطق العائلي والعشائري لم ينفع يوما. ورغم ذلك يعود اللبنانيون في الانتخابات البلدية والاختيارية لخوض معارك عائلية وحزبية من دون أي برامج إنمائية حقيقية في أكثرية المعارك، او يتجهون الى توافقات بخلفية المحاصصة للمقاعد البلدية والمخاتير، وأيضاً من دون أن يشمل التوافق في أغلبية الحالات التوافق على برامج إنمائية حقيقية للقرى والبلدات.
ونسي اللبنانيون كل الخالافات السياسية بين الأحزاب والأطراف السياسية، فانخرطوا في تحالفات حزبية هجينة في حالات كثيرة. والأنكى ان من يتحالفون في هذه البلدة أو المدينة، يخوضون معارك “داحس والغبراء” في بلدات ومدن أخرى، في غياب الحد الأدنى للمعايير السياسية والمنطقية للتحالفات، ولمجرّد البحث عن تسجيل انتصارات وهمية واحتساب أعداد بلديات او مقاعد بلدية، ومن دون السؤال عن اي خلفية إنمائية حقيقية.
هكذا يتلهّى اللبنانيون بانتخابات بلدية لن تغيّر في الواقع الإنمائي أي شيء، لأن التغيير الحقيقي يجب أن يبدأ على مستوى السلطة السياسية، بدءًا بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يليه انتخابات نيابية على أساس قانون انتخابات بعكس صحة التمثيل، ومن ثم الاتجاه نحو تشريع يقرّ اللامركزية الإدارية الموسعة، لتتمكن البلديات عندها من أن تشكل عامل تغيير فعلي في اتجاه الإنماء الحقيقي.
حتى ذلك الوقت، يستطيع أن يتسلّى اللبنانيون اليوم في مناكفاتهم العائلية والحزبية على مستوى الانتخابات البلدية والاختيارية، في حين أن المنطقة تغلي على وقع حروب ومواجهات قد تعيد رسم خريطة الشرق الوسط بكاملها!