Site icon IMLebanon

الاقتصاد السياسي للعقارات: لمن تُطفأ نوافذ بيروت؟

RealEstateLeb2
في عام 2015 بلغ متوسط سعر الشقة في بيروت 900 الف دولار، فيما بلغ متوسط دخل الفرد سنوياً نحو 10 آلاف دولار، ما يعبّر عن الانسلاخ التام لسوق العقارات عن الواقعين الاجتماعي والاقتصادي للناس. بالرغم من هذا الأمر، لا تزال رافعات البناء تملأ سماء بيروت، ما دفع طالبة الدكتوراه في جامعة «بيركلي» جوليا تيرني إلى البحث في أسئلة جوهرية يطرحها الجميع: لماذا يُعتقد ان القطاع العقاري في لبنان ملاذ آمن في منطقة خطرة؟ لماذا يُقال إن أسعاره لا تتراجع أبداً؟ وبأي ثمن تجري المحافظة على «مرونة» السوق العقاري التي تُبقي الأسعار مرتفعة؟

إيفا الشوفي

“يعدّ الإستثمار في العقارات، استثمارا طويل الأمد ليس من السهل تصفيته في حالات عدم الإستقرار مثل استثمارات أخرى. لكن بالرغم من أن لبنان يغرق أكثر في مشاكل سياسية واقتصادية وأمنية فإن بناء الشقق الفخمة مستمر.

هذا اللغز دفعني الى التعمّق في ما تسمّى مرونة سوق العقارات”. هكذا تبدأ جوليا تيرني، طالبة الدكتوراه في تخطيط المدن والأقاليم في جامعة “بيركلي” في كاليفورنيا، والباحثة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، ورقة بحثها التي تحمل عنوان “مرونة قطاع العقارات: الاقتصاد السياسي للاستثمار العقاري في لبنان”، التي عرضتها الشهر الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت، والتي فكّكت فيها “مرونة” سوق العقارات.

قانون الندرة «الطبيعي»

“خلال السنوات العشرين الماضية سجّل قطاع العقارات سيناريو تصاعديا تدريجيا. يرتفع في فترة ازدهار ثم يستقر، ثم يرتفع في فترة ازدهار ثم يستقر… لكن لا ينخفض”، هكذا يرسّخ بنك “عودة” في تقرير له فكرة “استحالة” انخفاض أسعار العقارات في لبنان. في بحثها، تقول تيرني إنّ جميع المطورين العقاريين الذين التقتهم أجمعوا على سبب أساسي لعدم انخفاض الأسعار هو قانون ندرة الأراضي. فالعرض على العقارات مقيّد بسبب الجغرافيا، أي صغر مساحة لبنان، فيما الطلب بارتفاع دائم نتيجة النمو السكاني، ورغبة المغتربين بشراء منزل في وطنهم، وجذب لبنان للمستثمرين العرب. تكرّر ذكر قانون الندرة بشكل كبير وصُوّر على أنه قانون “طبيعي” يسيطر على الواقع، بمعنى أنه غير قابل للتغيير. تعارض تيرني هذه الفكرة وتنطلق من أنّ هذه “المرونة”، المتمثلة بعدم تراجع الأسعار، ليست قانوناً “طبيعياً”، إنما أنتجتها سياسات محددة وضعها من لديهم مصالح ببقاء الأسعار مرتفعة.

إعادة الإعمار: بدء تهجير الناس

تنطلق تيرني من حقبة أساسية، هي مرحلة إعادة الإعمار، لتتبع السياسات التي ساهمت في إيصال سوق العقارات الى واقعه اليوم. تبدأ بنقل ما تكرر على مسامعها: “في بيروت، يُقال أن عدد المباني التي هدمت خلال عملية إعادة الإعمار يفوق عدد المباني التي دمرت خلال الحرب الأهلية”. تقول تيرني إنّ “شركة سوليدير حوّلت جميع العقارات في وسط المدينة الى أسهم، وإن مالكي العقارات اصبحوا مساهمين، وتحولت الدولة الى مساهم في أكبر شركة خاصة في قطاع البناء”.
كانت عملية إعادة الإعمار أكثر من مجرد إعادة بناء، انما حفزت عودة الاستثمار إلى بيروت، فضخ مستثمرو الخليج والمغتربون اموالا إلى سوليدير. بين عامي 1990 و1995، مثّلت إستثمارات المغتربين اللبنانيين والعرب نحو 80% من جميع الاستثمارات العقارية. هكذا، “سيطر الاستثمار العربي على قطاع العقارات، فبنيت سوق الشقق الفاخرة حول ثرائهم”.
تسرد تيرني أنّ تداعيات 11 أيلول جذبت المزيد من الاستثمارات الخليجية الى لبنان، وبعد سنة منها مثّلت هذه الاستثمارات نصف حجم الاستثمارات في لبنان. في تلك السنة، بيع ما يقدّر بمليار دولار من شقق الواجهة البحرية لمستثمرين خليجيين. وبين عامي 2003 و2010، ارتفع متوسط سعر المتر المربع في بيروت بنسبة 300%!

مصرف لبنان يمنع هبوط الأسعار

يعترف أحد المطورين العقاريين بأنه “من دون الرزم التحفيزية لكان قطاعنا في ازمة كبيرة”. فقد أطلق مصرف لبنان اعتبارا من عام 2013 رزم تحفيز بلغت مليار دولار سنوياً، لمواجهة الركود الإقتصادي. لكن “على الرغم من أن قطاع العقارات والبناء يمثّل 20 % فقط من الاقتصاد، إلا انه تلقى 56% من الموارد التحفيزية، اي ما مجموعه أكثر من ملياري دولار في السنوات الأربع الماضية”، وفق البحث. تسمح هذه الرزم للمصارف بالحصول على قروض مدعومة من مصرف لبنان بفائدة تبلغ 1% وإقراض المستدينين بفائدة تبلغ 5.5%.

تتعمّق تيرني في أهداف هذه الرزم فتقول انه “على الرغم من أن الهدف من رزم التحفيز هو مواجهة الكساد الأخير، الا انها تتماشى مع تدابير سابقة لبناء سوق رهن عقاري في لبنان. فسوق الديون الطويلة الأجل كانت معدومة قبل العقدين الماضيين، لكن خُففت القيود المفروضة على مر السنين، وأصبح الناس أكثر اعتياداً على تحمل الديون لسنوات عدة، كذلك المصارف، ما شجعهم على دخول سوق العقارات”.
تنقل تيرني عن أحد المسؤولين في مصرف لبنان اعترافاً لافتاً، إذ أقر “بمشاكل تركيز الرزم التحفيزية على سوق العقارات الذي يشغّل عدد قليل من المواطنين، لكنه قال إن احد أهدافهم هو تعزيز الإقراض الطويل الأجل، وإن الرهون العقارية هي أنجع وسيلة للقيام بذلك”. ففي عام 2014 تفوّق حجم سوق الرهن العقاري للمرة الأولى على قروض البناء بما يقارب 10 مليارات دولار سنويا.
تشير تيرني الى انّ مصرف لبنان يواجه موقفاً صعباً متمثلاً بالحاجة إلى دعم التطوير العقاري من أجل دعم الاقتصاد بأكمله، لتطرح سؤالاً جديراً بالإهتمام: إلى أي مدى يملك صناع القرار خياراً آخر سوى ضمان ان تبقى الأرباح تصب في جيوب المطورين العقاريين للحفاظ على الاقتصاد؟ فرزم التحفيز “توفّر أرضية تحول دون انهيار الأسعار، لكن ربما اصبح المطورون يعتمدون على هذه الأرضية، إذ ما زلنا نرى رافعات البناء منتشرة في بيروت في أحياء لا تملك الغالبية ثمن شقة فيها”.
تصل تيرني إلى استنتاج جوهري: فبينما يحاول مصرف لبنان مواجهة التباطؤ الاقتصادي العام من خلال تحفيز مبيعات العقارات، لا يقوم فقط بتعزيز اعتماد الاقتصاد على مواصلة البناء، انما يدفع نسبة متزايدة من السكان إلى هذه التبعية عن طريق قروض الإسكان الشخصية؛ فصحيح ان القطاع العقاري يعد ركيزة مهمة للاقتصاد، لكنه يتألف من عنصر هام في برنامج التحفيز لا يثير الدهشة، هو السياسات العامة الداعمة لتصاعد أسعار العقارات، وليس المرونة الطبيعية للعقارات.

تداعيات «المرونة»: مدينة فارغة

تؤكد تيرني أنّ “قانون الندرة لا يضمن أنه يمكن التهرب من قانون العرض والطلب الذي يرتكز على ان وفرة المعروض من أي شيء، بما في ذلك الشقق، يجب أن تترجم بانخفاض في السعر حتى يتلاقى العرض مع الطلب”. كذلك فإن أهمية العقارات لا يمكن فصلها عن السياسات التي اوصلت اليها.
تنتقل الباحثة إلى ما هو أبعد من المنظور الإقتصادي للسوق: “اليوم، اذ تحافظ الأسعارعلى “مرونتها” برغم التباطؤ الاقتصادي، فإن السؤال يصبح بأي ثمن يُحافظ على عدم هبوط الأسعار؟ فهذه المرونة لها ثمن، لا يتجلى فقط في تكلفة الشقق غير المتوافرة في متناول الجميع سوى طبقة معينة، انما في عواقب لا يمكن تحديد حجمها على مدينة من المباني غير المأهولة. بيروت ليست فارغة، ولكنها مجزأة إلى مساحات من الثراء والإقصاء. فبعدما تحولت العقارات الى “قيمة مُخزّنة”، وفُصلت عن استعمالها الاساسي كمساحة للسكن والعيش، باتت مناطق واسعة من المدينة محرّمة على الكثيرين”.
تُنهي جوليا تيرني ورقة بحثها بخلاصة مفادها بأنّ ليست الطائفية أو انعدام الأمن فقط ما يقسم بيروت الى جيوب منفصلة، إنما الأمر يكمن في كون تكلفتها غير قابلة للتحمّل لدى الكثيرين مدعومةً بسياسات تُبقي نوافذ بيروت مطفأة، مبانيها غير مأهولة، وتخلق شعور بفراغ غير طبيعي لدى أي مقيم في بيروت عندما يقال ان قطاع العقارات هو عنصر “طبيعي” للاقتصاد.