أصبحت حلب مفترق طريق لمستقبل سوريا. باتت المعركة على حلب مصيرية لطرفي الحكم والمعارضة ورئيسة في اعتبارات اللاعبين الإقليميين والدوليين، العسكرية منها والجغرافية ـ السياسية، بغض النظر عما إذا اتفقت الدول الفاعلة، بالذات روسيا والولايات المتحدة، على هدنة أو وقف النار الآن، فإن محور روسيا ـ ايران ـ دمشق ـ “حزب الله” عازم على حسم المعركة عسكريًا لمصلحته عاجلاً أم آجلاً، لأنّه يريد إملاء ما يريده على المعارضة السورية بعد دفعها إلى الاستسلام عبر بوابة حلب. قد تبدي موسكو مرونةً هنا وهناك حرصًا على الإمساك بخيوط اللعبة مع إدارة باراك أوباما، وذلك إمّا للحصول على مزيد من التنازلات الاستراتيجية مقابل “اللاإحراج” لواشنطن في سوريا، أو لإخماد أي اندفاع أميركي ـ تركي ـ خليجي باتجاه زخم جدي في تسليح نوعي للمعارضة السورية المعتدلة. حذاقة موسكو الممزوجة بالحنكة الإيرانية تضع في الحسابات كيفية ونوعية وتوقيت تفكيك المعارضة السورية بتفاهم مع إدارة أوباما ووزير خارجيتها جون كيري الذي بات أداة رئيسة لموقع إبرة بوصلة التفاهمات بشأن سوريا وما يتعداها.
وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي بات محرّكاً للبوصلة وإبرتها يسعى اليوم إلى فرض الأمر الواقع على أكثر من محطة في المأساة السورية، بدءاً بشروط إدراج حلب في جغرافية رقعة الهدنة والتهدئة، وصولاً إلى نوعية “الانتقالية” في الحكم في سوريا.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُلهي نفسه بالجبهات الاستراتيجية وترابطها بتوقيتات ذات معنى ومغزى، وعينه دائمًا ثابتة على الولايات المتحدة حيث “اللاخصم” باراك أوباما سيُستبدل قريبًا إمّا بـ“اللاصديق” هيلاري كلينتون من الحزب الديموقراطي أو بالجمهوري “اللاخصم اللاصديق” دونالد ترامب الذي يعي بوتين أنّ غزله معه موقتٌ.
وفي أثناء التموضع الدولي والإقليمي، ليس مصادفة ربما تزامن التصعيد والمواجهة في حلب مع انحسار التقدم في المفاوضات اليمنية الجارية في الكويت بين الحكومة والحوثيين ومع اندلاع الفوضى المرعبة في العراق التي استدعت من واشنطن تجديد دعمها لرئيس الحكومة حيدر العبادي.
ثورة أنصار مقتدى الصدر في العراق ما لبثت أنّ انضوت تحت لواء زيارته إيران ورافقها غسل الأيادي من شعارات “مندسّين” هتفوا ضد الراعي النافذ “إيران برّا برّا”، قبل أن يقتحموا المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان لربما برسالة “أين أنا”؟ أدّى ذلك إلى اندفاع واشنطن لتأكيد دعمها لحيدر العبادي بتزامن مع إنذار طهران ألا يجرؤنّ أحدٌ على المسّ بالصيغة التي ارتأتها للحكم في بغداد، لا سيما أنّها منشغلة برسم صيغة حكم تريدها وتصرّ عليها في دمشق. هاتان العاصمتان أساسيتان في الطموحات الإقليمية لطهران. وواشنطن لا تعارض تلك الطموحات، ذلك أنّها فعلياً توافق السياسة الإيرانية في العراق، ولا تعارضها في سوريا عملياً عبر سكوتها الرهيب مثلاً على إعلان طهران أنّ لواء من الجيش الإيراني يقاتل لمصلحة النظام في سوريا وصمتها المرعب على صناعة الميليشيات التي يديرها قاسم سليماني المدرج على قائمة العقوبات الأميركية.
وفي العراق، وعلى صعيد ردود الفعل على ثورة الصدر، تبدو الدول الخليجية في توافق مع ردود الفعل الأميركية دعمًا للعبادي في وجه الفوضى واقتحام البرلمان.
الأمر مختلف تماماً في سوريا حيث إن إيران على ثقة تامة بأنّها منتصرة ليس فقط عبر معركة حلب، وإنّما في كامل المعركة على سوريا بشراكة واضحة مع روسيا وضمنية مع الولايات المتحدة. فواشنطن وضعت الحرب على “داعش” عنواناً لها هناك، وسارت في الخطى التي رسمها المحور الموالي للنظام في دمشق باختزاله المسألة السورية في حرب على الإرهاب.
الآن، أمام الدول الخليجية أن تتّخذ القرار الحاسم في المعركة الحاسمة على حلب. بعضهم يعتقد أنّه فات أوان تأهيل المعارضة السورية المعتدلة عسكرياً، بما يمكّنها من قلب الموازين ميدانياً. وآخرون يصرّون على أنّ تسليح هذه المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات السورية ـ وليس الطائرات الروسية التي تحلق على ارتفاعات لا تطاولها هذه الصواريخ ـ سيؤدّي إلى تعديل ضروري للمعادلة العسكرية الميدانية وسيمنع المحور الموالي لبشار الأسد من تحقيق الإنجازات التي يرمي إليها.
أصحاب هذا الرأي ينادون بعدم انتظار المباركة أو الفيتو الأميركيين ويشيرون إلى صواريخ صينية مكدّسة في المستودعات جاهزة للتصدير رهن القرار السياسي. يقولون أن أي تلكؤ سيؤدّي إلى هلاك المعارضة السورية كليًا، عسكريًا ومعنويًا وسياسيًا، بعد سقوط حلب في أيادي النظام. يقولون إنّ خسارة المعارضة في حلب ستؤدّي إلى خسارة في اليمن. من يقولون ذلك خليجيون، يعتبرون سوريا الفيصل في مستقبل العلاقات مع إيران.
آخرون في منطقة الخليج يراهنون على إيقاف واشنطن مسيرة موسكو وطهران إلى سوريا عبر حلب. يعتقدون بأنّ واشنطن جاهزة لتسليح المعارضة السورية المعتدلة فور وضوح السياسة الروسية العازمة في الصميم على عدم السماح بأنّ يخسر النظام في دمشق امتلاك آخر المدن الكبرى، ففي حلب يبدأ الإنهزام التام للمعارضة الذي يليه الإستسلام. ويرون أنّ واشنطن لن تسمح بذلك، أقلّه لأنّها لا تريد أن تفقد السيطرة أو السلطة على القرارات الخليجية أو التركية التي ستؤثر جذريًا في العلاقة الأميركية – الروسية.
روسيا تقول للولايات المتحدة إنّها لا تعتبر بشار الأسد حليفها، وإنّما تدعمه لمحاربة الإرهاب وهي تراهن على تلك الأولوية لدى إدارة أوباما، فيما تلمّح إلى أنّ العلاقة بين موسكو ودمشق اليوم ليست تحالفية كتلك التي بين واشنطن وأنقرة. والقصد من ذلك هو الإيحاء بأنّ موسكو تفهم مقاييس نفوذها ونفوذ واشنطن مع كل من دمشق وأنقرة، ومقاييس الالتزامات مع الحكم في البلدين. إنّها تحاول أن تطمئن إلى أنّ تصعيدها مع تركيا له حدود يمكن الولايات المتحدة أن تضبطها بحكم علاقة التحالف معها في حلف شمال الأطلسي. فموسكو تحاول أن تصعّد ضمن ضوابط عدم التورط المباشر مع تركيا، تجنّبًا لأزمة مع حلف شمال الأطلسي. وهي تطالب واشنطن بأن تسيطر على حليفها في أنقرة، مقابل ممارستها نفوذها مع “اللاحليف” لها في دمشق. أن تطالب بإغلاق الحدود التركية – السورية في إطار التفاهم على التهدئة في حلب، فإنّ ذلك منطقي من وجهة النظر الروسية.
المطلب الآخر لروسيا هو الفصل بين المعارضة التي تصف نفسها بأنّها معتدلة على نسق “جيش الإسلام” و“أحرار الشام” وبين “جبهة النصرة” التي صنّفها قرار مجلس الأمن بأنّها “إرهابية”. سيرغي لافروف طالب بانسحاب القوات “التي تصف نفسها بأنها معتدلة” من مناطق “جبهة النصرة” وإعلان “انفصال تام عن الإرهاب”، ودعا إلى إغلاق الحدود التركية ـ السورية التي اعتبرها أهم قنوات دعم الإرهابيين. بذلك الطرح، كان لافروف يدعو واشنطن إلى أمرين: أولاً، حسم المعركة من حلب “ضد الإرهاب” بما ينطوي على انتحار شق المعارضة المعتدلة التي لن تتمكن بعد معركة حلب من خوض أي معركة عسكرية. وثانياً، كان لافروف يدعو كيري إلى إضعاف المعارضة العسكرية المعتدلة لدرجة إخضاع العناصر العسكرية فيها للالتحاق بالجيش السوري، ليس على أساس مطالبها، وإنّما على أسس اضطرارها. تلك هي عملية التوازن في الجيش التي تريدها موسكو تحت عنوان أولوية مؤسسات النظام.
فموسكو ليست في وارد الكشف عن تفاصيل التزاماتها مع بشار الأسد أو عن مشاريعها لإحياء النظام السوري بتعديلات لا تشمل بقاء الأسد. إنّها تترك ذلك للتخمينات. الواضح من مواقفها أنّها دفنت مبادئ إعلان جنيف القائم على إنشاء هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية. بات ذلك خبر كان في استراتيجيتها السورية. والأرجح أنّ الأمم المتحدة لن تخوض تلك المعركة ضدّ موسكو، طالما أنّ واشنطن غير جاهزة لها، بل غير راغبة فيها.
واشنطن أوباما لن تتورّط في سوريا بغض النظر عن تهديد وإنذار وتوعد كيري بخطة “باء”، فتلك الخطة ستبقى في الأدراج طالما الثنائي لافروف ـ كيري يتفاهم. وسيتفاهم. لربما يُؤجّل الحسم في معركة حلب إلى حين احتواء الغضب من استهداف المستشفيات، وممّا تخلّفه يوميات سورية من لاجئين يطرقون الأبواب الأوروبية. ولربما وصل موسكو كلامٌ من الدول الأوروبية بأن تصعيدها مع تركيا لا يناسب تلك الدول التي تتلقى اللاجئين إليها. ولربما تكون هناك تهدئة في ضوء الوصاية الأميركية ـ الروسية العسكرية للتفاهمات بشأن سوريا وفي ضوء ضمّ حلب إلى فكرة التهدئة.
لكن هذه قرارات حرب وقرارات حسم مؤجلة وليست قاطعة. فحلب مفترق طريق مستقبل سوريا. والطريق إلى المفترق مُشبع بالمآسي وبالدماء ولفترة غير قصيرة.