هشام محمود
قال لـ “الاقتصادية”، البروفيسور ستانلي بنهام أستاذ التجارة الدولية إن الدولار سيفقد نحو نصف قوته الشرائية الراهنة بحلول 2022، إلا أن هذا لا يجعل الاقتصاد الأمريكي بالضرورة أمام “كارثة”، لأن ثمن انخفاض القوة الشرائية للدولار يقترب بالاقتصاد الأمريكي من مرحلة “التوظيف الكامل”، إذ تراجعت معدلات البطالة في الولايات المتحدة لتصل إلى 5.5 في المائة من إجمالي قوة العمل، بينما تصل في الاتحاد الأوروبي إلى 9.6 في المائة وفي إسبانيا إلى 20.4 في المائة.
وأضاف بنهام أن انخفاض وصعود العملة إحدى حقائق الحياة الاقتصادية، وأنه بقدر ما يعد ارتفاع قيمة العملة مؤشرا على متانة الوضع الاقتصادي، فإن انخفاضها آلية من آليات تحسين القدرة الاقتصادية وزيادة الطاقة التصديرية وخفض الاستيراد، مشيرا إلى أن تراجع القوة الشرائية للدولار لم يأت بلا ثمن، إذ خفض حدة الاحتقان الاجتماعي الداخلي، وقلص نسبيا الفجوة الطبقية من جراء رفع معدلات التوظيف، ودفع الصادرات الأمريكية للأمام.
ويعتقد بعض المختصين أن الانخفاض الراهن في سعر العملة الأمريكية مؤقتا، حيث أشاروا إلى أنه يصب أساسا في مصلحة الاقتصاد الأمريكي، سواء عبر جذب مزيد من الاستثمارات الدولية أو زيادة الصادرات. وبعيدا عن التفاصيل اليومية أو حتى الأسبوعية لارتفاع وانخفاض قيمة الدولار، فإن مستقبل العملة الأمريكية يعد أحد أهم الأسئلة المطروحة بقوة في سوق العملات الدولية، فهل سيشهد الدولار مزيدا من الانخفاض بعد التراجع الذي أصابه أخيرا؟ أم أنه انخفاض مؤقت يستعيد بعده عافيته المفقودة؟ ومن المسؤول عن هذا الوضع؟ هل هي البيانات السلبية لمؤشرات الاقتصاد الأمريكي؟ أم أن المجلس الفيدرالي وسياسته بشأن أسعار الفائدة تتحمل المسؤولية؟ وإلى أي مدى يمكن لواشنطن إلقاء اللوم في تدهور القوة الشرائية لعملتها على السياسات النقدية لخصومها وتحديدا اليابان والصين؟.
ومع هذا، فإن السؤال المحوري سيرتبط دوما بتأثير ذلك على الاقتصاد الأمريكي، حيث يثور التساؤل حول التأثيرات السلبية لانخفاض الدولار على اقتصاد الولايات المتحدة ما يدفعها للعمل على وضع حد لتراجع عملتها؟.
وأوضح لـ “الاقتصادية” ألفريد جاسبي الباحث الاقتصادي، أننا لا نستطيع القول إن تراجع قيمة الدولار أمر سيئ للاقتصاد الأمريكي، وربما يكون المتضرر الأساسي هو المواطنين الأمريكيين الراغبين في السفر إلى الخارج، والمستوردين، لكن بصفة عامة فإن الفائدة التي ستعود على الاقتصاد الأمريكي ككل من جراء انخفاض قيمة الدولار ستكون أكبر.
ويستدرك جاسبي أن القطاع الاستثماري سيكون في مقدمة المستفيدين، والمتضرر سيكون الصين والأسواق الناشئة، إذ ستتراجع الاستثمارات فيهما لمصلحة الولايات المتحدة، أما الجانب الآخر الإيجابي فهو تأثير ذلك على الشركات الأمريكية التي تعتمد على الأسواق الخارجية في تصريف إنتاجها، إذ سترتفع قيمة صادراتها للعالم الخارجي، وسينعكس ذلك إيجابا على الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
وتتفق وجهة النظر المؤيدة لفكرة أن التراجع الحالي في قيمة الدولار، أمر مرحب به في واشنطن، مع ما يشير إليه بعض المصرفيين من أن السياسة الراهنة التي يتبناها مجلس الاحتياطي الفيدرالي يمكن وصفها بأنها “غير ودودة” تجاه العملة الأمريكية، وتتمثل في عدم إقدام جانيت يلين رئيسة المركزي الأمريكي على رفع أسعار الفائدة، بل تصريحاتها التي تشير إلى ترحيبها بالفائدة السلبية، أضعف الطلب العالمي على الدولار لمصلحة عملات دولية أخرى.
ويرفض أنصار هذا الرأي الأفكار الداعية إلى ربط التراجع في قيمة الدولار، بتراجع المكانة الاقتصادية للولايات المتحدة، مؤكدين من جانبهم أنه يجب عدم الخلط بين التذبذبات الروتينية في أسعار العملة ومن بينها الدولار، مع ثبات الركائز الاقتصادية الأساسية للاقتصاد الأمريكي.
وقال لـ “الاقتصادية”، الدكتور بيلي هاتفيلد أستاذ الاقتصاد الدولي، إن هناك تراجعا فيما يمكن وصفه بالهيمنة الأمريكية على الاقتصاد الدولي، إذ ظهرت أقطاب أخرى تنافس واشنطن في مكانتها الاقتصادية، كما أن هناك دولا أخرى تصعد في سلم المنافسة الاقتصادية، ويمكن أن تستقطع في الأمد الطويل من حصة الولايات المتحدة في الأسواق الدولية، لكن الدولار مع ذلك سيظل لفترة طويلة مقبلة بمنزلة عملة الاحتياطي العالمي في المؤسسات المالية الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد، وهذا يمنحه مكانة بارزة مميزة بصرف النظر عن وضع الاقتصاد الأمريكي عالميا. وبطبيعة الحال، فإن وجهة النظر تلك لا تلقى قبولا من الجميع، فعدد آخر من المختصين المصرفيين، يعتقدون أن الدولار كعملة دولية آخذ في التراجع، وسط توقعات من جانبهم بأن يشهد العام الحالي انخفاضا ملحوظا في القوى الشرائية للعملة الأمريكية في مواجهة عدد من العملات الدولية ومن بينها الاسترليني واليورو والين.
وأوضح لـ “الاقتصادية” أدرين باستي الاستشاري في بنك “نت ويست”، أن تذبذب العملة لا مفر منه بالنسبة لأي اقتصاد مهما بلغت قوته، ولكن إذا كانت التذبذبات متكررة بشكل ملحوظ، وفترة التراجع أطول من فترات الصعود، فإن ذلك يمكن النظر إليه بوصفه أحد المؤشرات المهمة على أن تلك العملة تواجه أوقاتا صعبة، وأن الشكوك تحيط بمستقبلها.
وذكر باستي أن أداء الدولار كان جيدا خلال العامين الماضيين، حتى بداية هذا العام، وإذا كان أحد الأسباب المهمة وراء الوضع المميز للدولار فإنه يسهم بالنسبة الأكبر من الاحتياطي الدولي من العملات، فإننا يجب أن نلاحظ أن دخول اليوان الصيني على الخط يسحب نسبيا من نصيب العملة الأمريكية.
وأضاف باستي أن الأهم أن جزءا كبيرا من قوة الدولار، يعود تحديدا إلى الأداء المميز لشركات التكنولوجيا الأمريكية وتحديدا “أبل”، إلا أن هذا الدور بات محل تساؤل في ظل القفزات التكنولوجية الضخمة التي تحققها شركات منافسة في كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية ومنطقة جنوب شرق آسيا عامة، وهذا التقدم لشركات التكنولوجيا غير الأمريكية يضعف من الإقبال الدولي على الدولار، ويحد من الطلب عليه وهذا الاتجاه سيواصل الصعود خلال العام الحالي.
لكن تعقيدات التكهن باتجاهات الدولار مستقبلا تعود إلى عوامل أخرى لا ترتبط بالعملة الأمريكية ذاتها، فسوق العملات تعد من أكثر الأسواق سيولة وأكبرها في الوقت ذاته، حيث يبلغ حجم التداول اليومي نحو 3.2 تريليون دولار يوميا. ومع هذا فإن هذه السوق على ضخامتها كان من الممكن التنبؤ بتوجهاتها لو كانت تخضع لقواعد المنافسة الحقيقية، لكن عديدا من القوى ذات التوجهات الاقتصادية المختلفة تمارس أدوارا متباينة فيه، وهو ما يدفع جون تشاتر المختص في مجال أسعار الصرف والمضاربة على العملات في بورصة لندن إلى القول إن التحديات التي تواجه العملة الأمريكية غير مسبوقة، حيث تعمل على تآكل الثقل الدولي للدولار في الاقتصاد العالمي، دون أن يسفر ذلك عن انهيار في قيمة العملة الأمريكية في السوق العالمية. وأشار لـ “الاقتصادية”، إلى أنه إذا تواصلت الأوضاع الاقتصادية الراهنة فالدولار حتما في طريقة للانخفاض، وقبلة الحياة التي يمكن لها إنقاذه ستتمثل في إقدام “الفيدرالي الأمريكي” على رفع أسعار الفائدة، إلا أن هذا الخطوة وبقدر إرسالها برسائل تطمين للأسواق بشأن الدولار ومستقبله، لن تصمد طويلا، فهي حلولا سريعة ووقتيه يستمر مفعولها لبعض الوقت، وتنتهي بمجرد قيام البنوك المركزية في دول أخرى برفع أسعار الفائدة، ولهذا فإن تآكل تأثير الدولار على مسيرة الاقتصاد الدولي اتجاه حتمي، فهو لم يعد بمفرده الملاذ الآمن بين العملات كما كان الوضع في السابق.