تناولت العديد من الصحف اللبنانية مسار العملية الانتخابية في بيروت، فأجرت صحيفة “اللواء” قراءة سريعة لمجريات الانتخابات العاصمة، والتي يمكن اختصارها بالبنود التالية، على سبيل المثال لا الحصر:
1- ساهم تعدد اللوائح المتنافسة، خاصة في بيروت، في إضفاء أجواء حماسية على الحركة الانتخابية، كان من الممكن أن تبلغ ذروتها في استقطاب المزيد من المقترعين، لولا مشاعر الإحباط المتمكنة من كتلتين انتخابيتين مهمتين: الأولى في الأشرفية وأحيائها المحيطة، والثانية في عرمون وبشامون وتضم البيارتة المقيمين في تلك المناطق، والذين يشكون الإهمال والتهميش، وغياب مشاريع البنية التحتية عن مناطق سكنهم الجديد.
2- فشلت الأحزاب المسيحية مجتمعة في تذويب الجليد الفاصل بين ناخبي شرق بيروت وصناديق الاقتراع، حيث لم تتجاوز نسبة الاقتراع في معظم أقلام تلك المنطقة الخمسة بالمائة فقط .
3- أدى الانقسام بين جناحي التيار العوني في الأشرفية، وما نتج عنه من احتكاكات، ساهم الإعلام المباشر في تضخيمها، إلى ظهور موجات من القلق والنفور من العملية الانتخابية لدى أهالي الأشرفية، عزّز اتجاهات العزوف والمقاطعة للعملية الانتخابية.
4 – كشفت مرحلة الاستعدادات للانتخابات حجم الهوّة الفاصلة بين تيّار المستقبل وجمهوره الكبير، لأسباب لا مجال للخوض في تفاصيلها الآن، فجاءت لقاءات الرئيس سعد الحريري المكثفة مع الوفود البيروتية في بيت الوسط، ثم جولاته الجريئة في مختلف مناطق العاصمة، لتردم جزءاً مهماً من هذه الهوّة، التي ما زالت بحاجة لمزيد من الجهود الحثيثة والجدّية للقضاء عليها كلياً، واستعادة العلاقة التفاعلية والناشطة بين القيادة والقاعدة، والتي اهتزت في السنوات الأخيرة بسبب غياب الحريري.
5 – أدت المحاولات السياسية والحزبية لاستهداف الحريري شخصياً وزعامته، إلى مفعول عكسي في أوساط المجموعات الزعلانة والحردانة من أداء “المستقبل”، حيث بادرت جماعات عديدة إلى التجاوب مع الحراك الانتخابي، معبّرة عن خيارها الاستراتيجي، بمواجهة مخططات النيل من نهج رفيق الحريري وإرثه السياسي.
صحيفة “السفير” كتبت أن الفوز الذي حققته لائحة “البيارتة” لا يحجب الحقائق الآتية:
تراجع وهج تيار “المستقبل” على مستوى العاصمة، بفعل الغياب الطويل لرئيسه عن لبنان وتقلص قدرة شعاراته التقليدية على التأثير في البيارتة الذين اختار قرابة 80 في المئة منهم الامتناع عن التصويت.
افتقار تركيبة لائحة “البيارتة” الى الانسجام، بعدما ضمت تناقضات نافرة وفاقعة، من قبيل الجمع بين “التيار الوطني الحر” و”المستقبل” في وعاء واحد، الامر الذي انعكس تراجعا في الإقبال المسيحي، وتململا في اوساط جزء من قواعد التيار، بلغ حد الصدام العلني بين فريقي زياد عبس ونقولا صحناوي في الاشرفية وتسرب جزء من الاصوات المسيحية الى لائحة “بيروت مدينتي”، مع الاشارة الى ان الأقلام الارمنية التي تخضع لنفوذ الطاشناق التزمت بلائحة “البيارتة”.
قرف المواطنين من الاحزاب ونقمتهم عليها، بعد تراكم الفضائح والارتكابات طيلة الفترة الماضية وصولا الى جريمة النفايات، فكانت النتيجة انكفاءً احتجاجياً للناس، وبالتالي عجز ائتلاف السلطة الذي ضم مروحة واسعة من القوى المسيحية والاسلامية عن استقطاب الناخبين.
إخفاق القوى المعارضة لـ”لائحة البيارتة” في توحيد صفوفها وتقديم بديل متكامل، ما أدى الى تبعثرها وتوزعها على لائحة “بيروت مدينتي” ولائحة الوزير شربل نحاس غير المكتملة “مواطنون ومواطنات”.
شعور شريحة واسعة من الناخبين بأن أصواتهم لن يكون لها وزن أو تأثير نتيجة عدم اعتماد النسبية في الانتخابات.
من جهتها، كتبت صحيفة “الأخبار”: “إنه فوز بطعم الهزيمة. هكذا هي حال تيار المستقبل وفريقه في بيروت. جمع التيار كل حلفائه، وجزءاً كبيراً من خصومه، لخوض معركة في العاصمة. لكنهم جميعاً لم يتمكنوا من حشد اكثر من 20 في المئة من الأصوات. ربح الرئيس سعد الحريري المجلس البلدي في العاصمة، لكنه خسر الناس. وفي الكثير من دول العالم، تُعاد الانتخابات امام هذا الإقبال الهزيل الذي عبّر عن رفض 80 في المئة من الناخبين للخيارات المطروحة، أو للنظام الانتخابي برمته. صحيح ان الرئيس سعد الحريري يمكنه أن يفاخر بأن نسبة الاقتراع لم تختلف عن مثيلتها في الانتخابات البلدية عام 2010، إلا أن هذه المفاخرة لا تُخفي استياءه”.
مقربون منه تحدّثوا عن خيبته من الإقبال الضعيف. فبحسب ماكينته، اقترع من “السنة البيارتة” نحو 55 ألف شخص. ما يعني ان زعامة الحريري، ورغم قيادته الحملة الانتخابية لـ”لائحة البيارتة” بنفسه، تبيّن أن 80 في المئة من أهل العاصمة لا ينجذبون لشعار “المناصفة” الذي رفعه، ولا هم معنيون بالعنوان العنصري الذي حمل لواءه الشيخ سعد ومرشحه لرئاسة البلدية جمال عيتاني، ألا وهو “بيروت لأهلها”.
وأضافت الصحيفة: “كان بمقدور حزب الله “إيذاء” الحريري لو انه حرّك ماكينته يوم الانتخاب، وصبّ كتلة ناخبيه لخصوم “لائحة البيارتة”. لكنه لم يفعل. ورغم ذلك، لم يتجاوز تأييد “لائحة السلطة” اكثر من ثلثي المقترعين”.
واعتبرت “الأخبار” أن النتيجة تعكس أيضاً أن الاحتجاج على القوى النافذة كبر كثيرا خلال السنوات الماضية، إلا انه ظل موضعياً. وأن خصوم “قوى النظام” ليسوا اكثر من اصوات احتجاجية لا تقدر على التغيير. ففي مقابل “لائحة البيارتة”، تقف لائحتا “بيروت مدينتي”، و”مواطنون ومواطنات في دولة”. الأولى كانت صاحبة الحضور الأكبر بين الجمهور، افتراضياً على الأقل. قدّمت نفسها في صورة “ناصعة” وعصرية، مستفيدة من الزخم الذي حظي به الحراك المدني الصيف الماضي. والمفارقة أن النتيجة التي حصدتها أمس بدت كنتيجة الحراك نفسه. وظروف معركة هذه اللائحة كانت ملائمة للغاية لها: قوى اللائحة المنافسة غير متراصة؛ راعي لائحة السلطة، أي الحريري، لا يملك القدرة على الانفاق الانتخابي كما في السابق؛ المجلس البلدي السابق موغل في “الارتكابات”، وآخرها محاولة تهريب صفقة الرملة البيضاء المشبوهة؛ ازمة النفايات التي أوصلت جماهير القوى التقليدية إلى مرحلة غير مسبوقة من “القرف” والاحتجاج لم تُحل بعد، فروائح النفايات لا تزال تصل إلى منازل سكان العاصمة والضواحي، رغم رفع “الزبالة” من الشوارع.
يُضاف إلى ذلك أن التكتيك الذي اعتمدته لائحة “بيروت مدينتي” كان يهدف إلى عدم استفزاز الكتل الطائفية والسياسية الكبيرة، من خلال تجنّب الكلام السياسي الصريح. فعلى سبيل المثال، تعمّد البرنامج الانتخابي للائحة “المجتمع المدني” عدم الإشارة إلى شركة “سوليدير”، لا من قريب ولا من بعيد، رغم ان هذا البرنامج مبني في الجزء الأساسي منه على “التخطيط المدني” للعاصمة. ورغم ما تقدّم، لم تتمكّن “بيروت مدينتي” من الوصول إلى عقل الجمهور العريض وقلبه، مع كل الدعم الإعلامي الذي تلقته. “المجتمع المدني”، بكل نسخه، عاجز عن مخاطبة الناس. ثمة فئة من الجمهور تقبل بهذا “المجتمع” متحدّثاً باسمها في قضايا جزئية، لكنها لا ترى فيه قائداً لها أو ممثلاً سياسياً لها. بدورها، بدت لائحة “مواطنون ومواطنات في دولة”، كـ”رئيسها” شربل نحاس، “حالة شغب” في وجه النظام.
تبقى عبرة أساسية من انتخابات بيروت، وفق “الأخبار”، سترفضها قوى نظام ما بعد الطائف أو ستتجاهلها: فضلاً عن أن نجاح مؤسسات الدولة في تنفيذ الاستحقاق، صار بحد ذاته حجة على السلطة نفسها التي تمنع الانتخابات النيابية، فإن نتائج الجولة الاولى من الانتخابات المحلية، تظهر مرة جديدة عقم النظام الاكثري في الانتخابات العامة، وضرورة الذهاب جدياً نحو النظام النسبي، بدل صراخ السياسيين وتأنيبهم الجمهور بسبب عدم إقباله على الاقتراع؛ إلا إذا كان ضعف المشاركة في التصويت في العاصمة امس تعبيراً عن استسلام المواطنين للامر الواقع أكثر منه مظهراً من مظاهر لامبالاتهم بالانتخابات.