كتب وسام سعادة في صحيفة “المستقبل”:
عام ألفين، بلغ التلاقي الذروة، بين قسم أساسي من القوى السياسية ذات الحيثيات الراجحة أو الوازنة في طوائفها، وبعضها مختلط طائفياً الى حد ما، وبين قسم أساسي من المثقفين، بل الكتلة الأهم من الأنتلجنسيا اللبنانية. ما تسمّى ثورة أرز أو حركة استقلالية تشكّل بهذا المعنى من هذا التلاقي. هذا التلاقي كان طبعاً بشروط القوى السياسية ومحدّداتها وأساليبها المختلفة في اللعب. المثقفون، ويتألف جزء أساسي منهم من أصحاب تجارب حزبية يسارية، منهم من اندمج في هذه القوى، أو ارتبط بالمؤسسات والفضاءات الدائرة في فلكها، أو سعى إلى تشكيل أطر أكثر نخبوية لم يكن بمقدورها الاستمرار كثيراً.
اليوم، لم يعد كل هذا قائماً، وهذا أمر أساسي لا بدّ من الخوض فيه، وفتحه على مصراعيه ومناقشته، بعد اذاعة نتائج انتخابات بلدية بيروت تحديداً، وانقشاع أوهام “مجتمع مدني” كثيرة، والحاجة في الوقت نفسه إلى إعادة تفكير في العلاقة بين القوى السياسية وبين الأنتلجنسيا.
فهذه الأنتلجنسيا الناقمة على “مساومات” الحركة الاستقلالية، ثم على تخلّع الحركة الاستقلالية نفسها، والتي وضعت ثقتها بعد ذلك بـ “فوز سريع” للثورة السورية، حاولت التقرّب في الصيف الماضي من الحراك الشبابي على خلفية مسألة النفايات، لكن الشطح الميداني لهذا الحراك عاد فأبعدها، لتعود وجوه مهمة ومحترمة جداً من هذه الأنتلجنسيا، لتلقي بثقلها في تجربة مدنية مهمة، انما وبدل الاهتمام بالتعاطي مع الظاهرة الجديدة بوعي نقدي، انزلقت هذه الوجوه الى مواقع أقل ما يقال فيها إنها خالية من الهم الثقافي، من النقاش حول التنظيم المدني، من التنبيه من بعض “هلوسات” الديماغوجيا الاجتماعية، من مثل وعد الناس بالتدخل في تحديد أسعار العقارات، وهذا ليس من صلاحية البلدية، ولا الحكومة، ولا الدولة، الا في حال كانت البلدية مجلس سوفيات، وكانت الدولة اشتراكية.
عبّر هذا الاصطفاف الحماسي، غير النقدي، لوجوه كثيرة من الأنتلجنسيا والفنانين، عن صورة مختلفة كلياً عن صورة ألفين وخمسة، وهذا بعد أساسي يفترض عدم المكابرة عليه عند النظر الى الجولة الأولى من الانتخابات البلدية. من ناحية، هذه الانتلجنسيا تجس بشكل صادق نبضاً انشقاقياً لدى شريحة مهمة من الشباب اللبناني عن “السيستام”، ومن ناحية ثانية، تتعامل هذه الانتلجنسيا اما بأبوية منفرة مع هؤلاء الشباب (الصيف الماضي)، واما بتصابٍ غير مُجدٍ، وغير نقديّ، وغير مساعد على مغادرة خطابية الديماغوجيا الاجتماعية، وعدم اختزال الأمور في “أخيار وأشرار”، وتفسيرات من نوع أن الزعماء يتقاتلون مع بعضهم البعض فقط لتخدير الناس وسلبهم قوتهم.
في الوقت نفسه، منظر القوى السياسية معرّاة من أي اتصال جدي مع الأنتلجنسيا وأهل الفن هو مؤشر سلبي، مؤشر اذا لم يراجع، سيزيد الانفصال بين السياسة والثقافة، والفصامات داخل كل منهما.
أياً كانت مشاكلها، كانت الحركة الاستقلالية مكاناً واصلاً بين السياسة والثقافة، أقله في فترتها الأولى. لكن إعادة الوصل لا يمكن أن تتأمن بالنوستالجيا، لا يمكن أن تتأمن بين ليلة وضحاها. مع ذلك، الاضاءة على هذه المشكلة باتت أكثر من ضرورية، بعد الحاصل منذ فترة، من انفصال كبير، وخطير، بين دائرة السياسة وبين دائرة الثقافة، وليس أبداً بشكل ثوري، انما بشكل رجعي، يجعل السياسة أقل سياسة، والثقافة أقل ثقافة.
الانتخابات في جولتها الأولى، ونتيجتها، ونسبة المشاركة، مدعاة لاتجاهات متعددة من النقد الذاتي. النقد الذاتي لدى الرابح، ولدى الخاسر. والنقد الذاتي لدى المثقفين ورهاناتهم. المكابرة على هذا النقد لخلق سرديات “مظلومية” غير مُجدٍ. هناك كمية أوهام، انزلقت بعضها الى حيث استعادة نتف من خطاب القسم اللحودي، ولو عن غير قصد، أو في حماسة المعركة، وكل هذا ينبغي طي صفحته، انما بعد تمعّن في كيفية اعادة خلق فضاء للمعنى: للمصالحة، المجدية مرة أخرى – كما في الفترة الممتدة من “لقاء قرنة شهوان” حتى الجلاء السوري، بين السياسة والثقافة.